صوم الميلاد ...
بقلم : القمص أثناسيوس چورچ

وضعت الكنيسة صوم الميلاد بقصد الاستعداد للقاء المسيح الرب الآتي لخلاصنا. ولتجديد الحياة الروحية حيث الصوم والصلاة والتسبيح والعطاء والتأمل يجعلوا من داخلنا مذوداً يُولد فيه المسيح المتجسد.... وهذا يتحقق إذا سعى كل واحد منّا بصدق أن يهيئ نفسه كما يليق مشتركاً مع الكنيسة ليفرح بالحدث الخلاصي المشترك . صوم الميلاد هو أن نتحضر بالتوبة وتبييض الثياب لاستقبال الملك المولود. نستقبله بزينة النفس فنذوق وننظر طِيبته ونرتل (المسيح وُلد فمجِّدوه واستقبِلوه).

فهل ندرك أن صومنا هو إعداد وتحضير وتهيئة لاستقبال السيد في مذود قلوبنا؟؟ وهل يجد الله مكاناً في مذودنا ليستريح ويُولد فيه؟؟ إن إيماننا ليس مجرد معتقد أو أدب بل هو التزام مُعاش وحياة بإلهنا الذي تجسد في التاريخ. وكلَّمنا في أنبيائه القديسين وظهر لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت بتجسده العجيب والمحيي... إن إيماننا ليس فرضيات لكنه واقع... ليس أفكاراً لكنه حدثٌ بدّل مجرى التاريخ عندما نظر الله لنا شيئاً أفضل. حتى لا نهمل خلاصاً كهذا مظهرين ثباتاً وأعمالاً وثماراً.

إننا نصوم لاستقبال حضور الرب بالجسد وتأسيس كنيسته جسداً له عبر التاريخ. بعد أن كلم قديماً الأنبياء بأنواع وطرق شتى. كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة بإبنه الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح... إننا نتهيأ من جديد في هذا الصوم ليولد فينا ويحل بيننا. لم يُنزّل لنا الله كتاباً مُنزّلاً لكنه أعطانا ذاته لنغتني بفدائه وخلاصه ورحمته وعشرته وأسراره الثمينة والعجيبة.... نتعرف عليه ونتّحد به لأن هذه هي قيمة الحياة وكرامتها. عمانوئيل إلهنا الكائن في وسطنا بمجده ومجد أبيه والروح القدس.... وهو إلى الأبد معنا الآن وكل أوان وإلى دهر الأدهار حسب وعده لكنيسته. ففيها نلقاه ونحيا معه لأنه مُسكن المتوحدين في بيت واحد. صومنا ينبهنا إن الميلاد ليس مجرد قصة ولادة ملك ملوك الأرض كلها بل هو دفع جديد لاتحادنا والتصاقنا به اليوم وغداً.

فقصة الميلاد شيء هام. والميلاد كتجسد دائم الأهمية.... ميلاد الكلمة المتجسد هو خلاص وحوار وصلاة ولقاء وتجاوب مستمر. هو نطق وعقل.

لذلك نحن لا نتصارع مع العالم بل نتحاور ونجاوب عن سبب الرجاء الذي فينا اليوم وبلُغة اليوم (وأنتم من تقولون إني أنا) وسط عالم متمركز حول الإنسان. متمرد على كل ما هو إلهي وبعيد عن خبرة الروح.... بينما شخص المسيح يقلِّب القديم ويلتصق اسمه بالجديد والجدة والتجديد. لقد جاء (لتكون الحياة لنا أفضل) في جدة النور والفرح والحق والعدل والحرية والسلطة. وليكون الأصغر كالأكبر والمتقدم كمثل الخادم. وليكون اللص اليمين أعظم من بيلاطس. وبطرس الصياد أعظم من أفلاطون. ويوحنا المعمدان أعظم من هيرودس. وبولس أقوى من نيرون. لأنه جاء ليرفع البائس والمسكين والفقير والمُزدرَى من مزابل هذه الدنيا وترتيباتها الطبقية مؤسساً ملكوتاً لا يتزعزع. ملكوتاً لا يضم المستكبرين ولا الشتامين ولا الظالمين ولا القتلة والطماعين. ملكوتاً لا يعرف العداوة والتمييز والعنصرية والشر.

إن كنا نصوم لنُعيّد عيد الميلاد بمجيء الله إلى الإنسان إنما بالأحرى نعيّد بعودتنا إليه. لقد جاء إلينا فكيف نحن نأتي إليه؟!!! فصومنا هو إعلان عن رغبتنا بالرجوع والعودة إليه. فلنستقبله لأنه تجسد على أرضنا ليرفعنا كخليقة مستعادة. وهذا العيد يخصنا. لذلك لم تعد السنين والتاريخ لنا مجرد أرقام بل حياة مقدسة مرتبطة بالذي تجسد لأجل خلاصنا.

مسيحنا المولود هو صاحب العيد. وصومنا كي نستقبله ويولد في مذود قلوبنا. إنه سيد التاريخ والحياة كلها. ولا فرح أثمن من استقباله كأعظم زائر نستمد منه ينبوع حياتنا ليخمّر عجين العالم كله بالفرح والمسرة. لنُشرِّع أبوابنا لنستقبله كي يبيت ويتعشى ويقيم ويصنع عندنا منزلاً. فالمغارة التي وُلد فيها هي كنسته. والمذود هو هيكله.

ويوسف النجار والرعاة والمجوس هم طغماته (الكهنة والشمامسة والخدام والشعب) والعذراء مريم هي عرشه وهو قربان العالم كله. أسقف نفوسنا وراعيها. إذ ليست كنيسته مؤسسة بشرية لكنها السماء على الأرض. ليت الله يعطينا عيوناً روحية أبهى من عين الجسد حتى نمتلك عيناً لا تقوى خشبة الخطية على أن تسقط فيها. لنبصر مخلصنا المولود لأجل خلاصنا .