عبدالرحيم علي يكتب: بالتفاصيل.. تاريخ محاولات "الإخوان" اختراق الجيش والشرطة  361


عندما التقى عبدالناصر المرشد أظهر استياءه من اتصال الإخوان بالإنجليز الذي يدعو إلى التضارب وإظهار البلاد بمظهر الانقسام

عندما علم المرشد بتكوين هيئة التحرير ذهب للقاء جمال في مبنى القيادة وقال له: لا لزوم لإنشائها ما دام الإخوان قائمين.. فرد: هناك من لا يرغب في الانضمام للجماعة.. فقال المرشد: لن أؤيد هذه الهيئة

بدأت بوادر الصدام بين الثورة والجماعة عندما تكشف لكل طرف الأهداف الحقيقية للطرف الآخر، وهو ما أدى إلى وقوع الصدام بينهما، وبذلت محاولات التقريب بين الجانبين، ولعب الشيخ «حسن الباقورى» بالتعاون مع «إبراهيم الطحاوى»، سكرتير هيئة التحرير، دورًا في دعم الجناح المؤيد من الإخوان للتعاون مع الحكم الجديد، كما سعى عبدالناصر لتقريب «عبدالرحمن السندى»، رئيس الجهاز السرى، إليه والذي كان على خلاف مع حسن الهضيبى والشيخ سيد سابق، منشئ الجهاز، وهو ما أدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية في صفوف الجماعة.

ورغم ذلك فقد تزايدت مخاوف مجلس قيادة الثورة من تزايد نفوذ الجناح المناوئ له في الإخوان، والذي اتخذ موقفًا سلبيًا من بعض سياسات الحكم الجديد مصرحا بذلك علنًا، ومن ذلك عدم حماس الإخوان لقانون الإصلاح الزراعى، وعدم ارتياحهم لقرار إقالة رشاد مهنا الذي كان قريبًا منهم، فضلًا عن بعض تصريحاتهم أمام الصحافة الخارجية، التي لم تلق قبولًا من جانب مجلس قيادة الثورة، وإلى جانب ذلك سعى الإخوان لتكثيف نشاطهم والتغلغل داخل بعض النقابات العمالية وفى الجامعات.
مجلس قيادة الثورة
مجلس قيادة الثورة

"الحل" هو الحل

أصدر مجلس قيادة الثورة في الساعة الواحدة إلا ربع من صباح يوم 14 يناير 1954‏ قرارا باعتبار جماعة الإخوان حزبا سياسيا، يطبق عليها أمر المجلس الخاص بحل الأحزاب السياسية‏،‏ وننشر فيما يلي نص البيان الذي أذاعه المجلس في هذا الشأن‏:‏

إذا كانت الثورة قد قامت في ‏23‏ يوليو فقد ظل تنظيم الضباط الأحرار ينتظر من يتقدم الصفوف، مخلصًا ليغير المنكر الذي كنا نعيش فيه، ويثبت بعمله جدية صدقه وإخلاصه لدينه ولوطنه، وكنا على استعداد أن نتبعه في صف واحد كالبنيان المرصوص حتى نحقق لوطننا العزيز عزة وكرامة وتحررا من الاستعباد والعبودية‏.‏

ولما طال انتظارنا عقدنا العزم على القيام بالثورة، وكنا جادين ولا هدف لنا إلا حرية الأمة وكرامتها، وأن الله تعالى لن يكتفى بإيمان الناس إذا لم يتبعوا هذا الإيمان بالعمل، وبالعمل الصالح، فيقول عز وجل «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون».

ومنذ قيام الثورة ونحن في معركة لم تنته بعد‏:‏ معركة ضد الاستعمار لا ضد المواطنين، وهذه المعركة لا تحتمل المطامع والأهواء التي طالما نفذ الاستعمار من خلالها ليحطم وحدة الأمة وتماسكها فلا تقوى على تحقيق أهدافها‏.‏

وقد بدأت الثورة فعلا بتوحيد الصفوف إلى أن حلت الأحزاب ولم تحل الإخوان إبقاء عليهم، وأملًا فيهم وانتظارًا لجهودهم وجهادهم في معركة التحرير، ولأنهم لم يتلوثوا بمطامع الحكم كما تلوثت الأحزاب السياسية الأخرى، ولأن لهم رسالة دينية تعين على إصلاح الخلل وتهذيب النفوس‏.‏

ولكن نفرًا من الصفوف الأولى في هيئة الإخوان أرادوا أن يسخروا هذه الهيئة لمنافع شخصية وأطماع ذاتية مستغلين سلطان الدين على النفوس وبراءة وحماسة الشبان المسلمين ولم يكونوا في هذا مخلصين لوطن أو لدين‏.‏

ولقد أثبت تسلسل الحوادث أن هذا النفر من الطامعين استغلوا هيئة الإخوان والنظم التي تقوم عليها هذه الهيئة لإحداث انقلاب في نظام الحكم القائم تحت ستار الدين‏.‏
الزعيم الراحل جمال
الزعيم الراحل جمال عبدالناصر

الحرب الباردة

سارت الحوادث بين الثورة وهيئة الإخوان بالتسلسل: ففى صباح يوم الثورة استدعى الأستاذ حسن العشماوى، لسان حال المرشد العام، إلى مقر القيادة العامة بكوبرى القبة وأبلغ إليه أن يطلب من المرشد العام إصدار بيان لتأييد الثورة، ولكن المرشد بقى في مصيفه بالإسكندرية لائذا بالصمت، فلم يحضر إلى القاهرة إلا بعد عزل الملك، ثم أصدر بيانًا مقتضبًا طلب بعده أن يقابل أحد رجال الثورة، فقابله البكباشى جمال عبدالناصر في منزل الأستاذ صالح أبورقيق، الموظف بالجامعة العربية، وقد بدأ المرشد حديثه مطالبًا بتطبيق أحكام القرآن في الحال، فرد عليه البكباشى جمال عبدالناصر أن هذه الثورة قامت حربا على الظلم الاجتماعى والاستبداد السياسي والاستعمار البريطانى وهى بذلك ليست إلا تطبيقا لتعاليم القرآن الكريم‏.‏

فانتقل المرشد بالحديث إلى تحديد الملكية، وقال إن رأيه أن يكون الحد الأقصى ‏500‏ فدان‏، فرد عليه البكباشى جمال قائلًا إن الثورة رأت التحديد بمائتى فدان فقط، وهى مصممة على ذلك، فانتقل المرشد بالحديث قائلا إنه يرى لكى تؤيد هيئة الإخوان الثورة أن يعرض عليها أي تصرف للثورة قبل إقراره فرد عليه البكباشى جمال قائلًا إن هذه الثورة قامت بدون وصاية أحد عليها، وهى لن تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد وإن كان هذا لا يمنع القائمين على الثورة من التشاور في السياسة العامة مع كل المخلصين من أهل الرأى دون التقيد بهيئة من الهيئات، ولم يلق هذا الحديث قبولًا في نفس المرشد‏.

سارعت الثورة بعد نجاحها في إعادة الحق إلى نصابه، وكان من أول أعمالها أن أعادت التحقيق في مقتل حسن البنا، فقبضت على المتهمين في الوقت الذي كان المرشد لا يزال في مصيفه في الإسكندرية‏، طالبت الرئيس السابق على ماهر بمجرد توليه الوزارة أن يصدر عفوا شاملا عن المعتقلين والمسجونين السياسيين وفى مقدمتهم الإخوان، وقد نفذ هذا فعلًا بمجرد تولى الرئيس نجيب رئاسة الوزارة‏.‏

حينما تقرر إسناد الوزارة إلى الرئيس نجيب، تقرر أن يشترك فيها الإخوان المسلمون بثلاثة أعضاء، على أن يكون أحدهم الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقورى‏، وقد تم اتصال تليفونى بين اللواء عبدالحكيم عامر والمرشد ظهر يوم 7‏ سبتمبر سنة 1952‏ فوافق على هذا الرأى قائلا إنه سيبلغ القيادة بالاسمين الآخرين، ثم حضر الأستاذ حسن العشماوى إلى القيادة في كوبرى القبة وأبلغ البكباشى جمال عبدالناصر أن المرشد يرشح للوزارة الأستاذ منير الدلة، الموظف في مجلس الدولة، والأستاذ حسن العشماوى، المحامى، وقد عرض هذا الترشيح على مجلس الثورة فلم يوافق عليهما‏، وطلب البكباشى جمال عبدالناصر من الأستاذ حسن العشماوى، أن يبلغ ذلك إلى المرشد ليرشح غيرهما، وفى الوقت نفسه اتصل البكباشى جمال بالمرشد فقال الأخير إنه سيجمع مكتب الإرشاد في الساعة السادسة ويرد عليه بعد الاجتماع‏.‏

أعاد البكباشى جمال الاتصال مرة أخرى بالمرشد فرد عليه أن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة، فلما قال له‏:‏ لقد أخطرنا الشيخ الباقورى بموافقتك وطلبنا منه أن يتقابل مع الوزراء في الساعة السابعة لحلف اليمين أجابه بأنه يرشح بعض أصدقاء الإخوان للاشتراك في الوزارة ولا يوافق على ترشيح أحد من الإخوان‏.‏

وفى اليوم التالى صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل الشيخ الباقورى من هيئة الإخوان، فاستدعى البكباشى جمال عبدالناصر الأستاذ حسن العشماوى، وعاتبه على هذا التصرف الذي يظهر الإخوان بمظهر الممتنع عن تأييد وزارة الرئيس نجيب وهدد بنشر جميع التفاصيل التي لازمت تشكيل الوزارة، فكان رد العشماوى أن هذا النشر يحدث فرقة في صفوف الإخوان وليس لموقف المرشد العام ورجاه عدم النشر‏.‏

‏عندما طلب من الأحزاب أن تقدم إخطارات عن تكوينها قدم الإخوان إخطارا باعتبارهم حزبا سياسيا وقد نصحت الثورة رجال الإخوان بألا يترددوا في الحزبية ويكفى أن يمارسوا دعوتهم الإسلامية بعيدا عن غبار المعارك السياسية والشهوات الحزبية وقد ترددوا بادئ الأمر ثم استجابوا قبل انتهاء موعد تقديم الإخطارات وطلبوا اعتبارهم هيئة، وطلبوا من البكباشى جمال عبدالناصر أن يساعدهم على تصحيح الأخطاء فذهب إلى وزارة الداخلية حيث تقابل مع المرشد في مكتب الأستاذ سليمان حافظ، وزير الداخلية وقتئذ، وتم الاتفاق على أن تطلب وزارة الداخلية من الإخوان تفسيرا عما إذا كانت أهدافهم سيعمل على تحقيقها عن طريق أسباب الحكم كالانتخابات، وأن يكون رد الإخوان بالنفى حتى ينطبق عليهم القانون‏.‏

وفى صبيحة يوم صدور قرار الأحزاب في يناير سنة ‏1953‏ حضر إلى مكتب البكباشى جمال عبدالناصر الصاغ صلاح شادى والأستاذ منير الدلة، وقالا له الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من مؤيد للثورة إلا هيئة الإخوان، ولهذا فإنهما يجب أن يكونا في وضع يمكنهما من أن يردا على كل أسباب التساؤل، فلما سألهما ما هو هذا الوضع المطلوب؟ أجابا بأنهما يريدان الاشتراك في الوزارة، فقال لهما: إننا لسنا في محنة وإذا كنتم تعتقدون أن هذا الظرف هو ظرف المطالب وفرض الشروط فأنتم مخطئون. فقالا له: إذا لم توافق على هذا فإننا نطالب بتكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها وهذا هو سبيلنا لتأييدكم إن أردتم التأييد. فقال لهما جمال: لقد قلت للمرشد سابقا إننا لن نقبل الوصاية وإننى أكررها اليوم مرة أخرى في عزم وإصرار‏.‏ وكانت هذه الحادثة هي نقطة التحول في موقف الإخوان من الثورة وحكومة الثورة‏.‏ إذ دأب المرشد بعد هذا على إعطاء تصريحات صحفية مهاجمًا فيها الثورة وحكومتها في الصحافة الخارجية والداخلية كما كانت تصدر الأوامر شفهيًا إلى هيئات الإخوان بأن يظهروا دائما في المناسبات التي يعقدها رجال الثورة بمظهر الخصم المتحدي‏.‏

‏لما علم المرشد بتكوين هيئة التحرير تقابل مع البكباشى جمال في مبنى القيادة بكوبرى القبة، وقال له إنه لا لزوم لإنشاء هيئة التحرير ما دام الإخوان قائمين، فرد عليه البكباشى جمال أن في البلاد من لا يرغب في الانضمام للإخوان وأن مجال الإصلاح متسع أمام الهيئتين، فقال المرشد إننى لن أؤيد هذه الهيئة، وبدأ منذ ذلك اليوم في محاربة هيئة التحرير وإصدار أوامره بإثارة الشغب واختلاق المناسبات لإيجاد جو من الخصومة بين أبناء الوطن الواحد‏.‏
حسن البنا
حسن البنا

الإخوان والإنجليز.. "إيد واحدة"

‏في شهر مايو سنة‏ 1953‏ ثبت لرجال الثورة أن هناك اتصالا بين بعض الإخوان المحيطين بالمرشد وبين الإنجليز عن طريق الدكتور محمد سالم، الموظف في شركة النقل والهندسة، وقد عرف البكباشى جمال من حديثه مع الأستاذ حسن العشماوى في هذا الخصوص، أنه حدث اتصال فعلا بين الأستاذ منير الدلة، والأستاذ صالح أبورقيق ممثلين عن الإخوان وبين مستر‏‏ «ايفانز‏» المستشار الشرقى للسفارة البريطانية، وأن هذا الحديث سيعرض حينما يتقابل البكباشى جمال والمرشد، وعندما التقى البكباشى جمال مع المرشد أظهر له استياءه من اتصال الإخوان مع الإنجليز والتحدث معهم في القضية الوطنية، الأمر الذي يدعو إلى التضارب في القول وإظهار البلاد بمظهر الانقسام‏.‏

ولما استجوب اليوم الدكتور محمد سالم عن موضوع اتصال الإنجليز بالمرشد ومن حوله قال إن القصة تبتدئ وقت أن كان وفد المحادثات المصرى جالسًا يتباحث رسميًا مع الوفد البريطاني‏.‏

وفى إبريل سنة ‏1953‏ اتصل به القاضي «‏جراهام‏»‏ بالسفارة البريطانية وطلب منه أن يمهد مقابلة بين مستر إيفانز، المستشار الشرقى للسفارة البريطانية، وبعض قادة الإخوان، وأنه أي محمد سالم أمكنه ترتيب هذه المقابلة في منزله بالمعادى بين منير الدلة وصالح أبورقيق عن الإخوان ومستر إيفانز عن الجانب البريطانى، وتناول الحديث موقف الإخوان من الحكومة‏، وتباحثوا في تفاصيل القضية المصرية ورأى الإخوان وموقفهم من هذه القضية، ثم قال الدكتور محمد سالم إنه جاء في رأى قادة الإخوان أن عودة الإنجليز إلى القاعدة تكون بناء على رأى لجنة مشكلة من المصريين والإنجليز وإن الذي يقرر خطر الحرب هو هيئة الأمم المتحدة‏.‏

ولعل هذا هو السبب في تمسك الإنجليز بهذا الرأى، الذي لم يوافق عليه الجانب المصرى للمفاوضات حتى اليوم‏.‏

ثم قال الدكتور محمد سالم في اجتماع آخر مماثل في منزله أيضا حيث طلب مستر إيفانز مقابلة المرشد، فوعد منير الدلة بترتيب هذا الاجتماع وفعلًا تم في منزل المرشد، ودار في هذا الاجتماع الحديث عن القضية المصرية، وموقف الإخوان منها، وذكر الدكتور محمد سالم أن مستر إيفانز دعا منير الدلة وصالح أبورقيق لتناول الشاى في منزله وقد أجاب دعوته مرتين‏.‏
عبدالرحيم علي يكتب:

اختراق الجيش والبوليس

‏في أوائل شهر يونيو سنة ‏1953‏ ثبت لإدارة المخابرات أن خطة الإخوان قد تحولت لبث نشاطها داخل قوات الجيش والبوليس، وكانت خطتهم في الجيش تنقسم إلى قسمين‏: الأول ينحصر في عمل تنظيم سرى تابع للإخوان بين ضباط الجيش، ودعوا فيما دعوا عددًا من الضباط وهم لا يعلمون أنهم من الضباط الأحرار فسايروهم وساروا معهم في خططهم، وكانوا يجتمعون بهم اجتماعات أسبوعية وكانوا يتحدثون في هذه الاجتماعات عن الإعداد لحكم الإخوان، والدعوة إلى ضم أكبر عدد من الضباط ليعملوا تحت أمرة الإخوان وكانوا يأخذون عليهم عهدا وقسما أن يطيعوا ما يصدر إليهم من أوامر المرشد‏.‏

أما القسم الثانى فكان ينحصر نشاطه في عمل تشكيلات بين ضباط البوليس، وكان الغرض منها هو إخضاع نسبة كبيرة من ضباط البوليس لأوامر المرشد أيضا، وكانوا يجتمعون في اجتماعات دورية أسبوعية وينحصر حديثهم فيها في بث الحقد والكراهية لرجال الثورة ورجال الجيش، وبث الدعوة بين ضباط البوليس بأنهم أحق من رجال الجيش بالحكم نظرًا لاتصالهم بالشعب، وكانوا يمنونهم بالترقيات والمناصب بعد أن يتم لهم هدفهم، وكان يتزعمهم الصاغ صلاح شادى الذي طالما ردد في اجتماعاته بهم أنه وزير الداخلية المقبل‏.‏

وقسم ثالث أطلق عليه قسم الوحدات، وكان الغرض منه جمع أكبر عدد ممكن من ضباط الصف في الجيش تحت أمرة المرشد أيضا، وكانوا يجتمعون بهم في اجتماعات سرية أسبوعية، وكان الحديث يشتمل على بث الكراهية للضباط في نفوس ضباط الصف وإشعارهم بأنهم هم القوة الحقيقية في وحدات الجيش، وأنهم إذا ما نجح الإخوان في الوصول إلى الحكم فسيعاملون معاملة كريمة‏.‏

كما كان هذا القسم يقوم ببث الدعوة لجمع أكبر عدد من صف ضباط وجنود ليكون تحت أمرة المرشد العام للإخوان‏، ولما تجمعت هذه المعلومات لإدارة المخابرات اتصل البكباشى جمال عبدالناصر بالأستاذ حسن العشماوى، باعتباره ممثل المرشد وصارحه بموقف الإخوان العام ثم بموقف الإخوان في داخل الجيش، وما يدبرونه في الخفاء بين قوات الجيش والبوليس، وقال له لقد آمنا لكم ولكن هذه الحوادث تظهر أنكم تدبرون أمرًا سيؤثر على مصير البلاد ولن يستفيد منه إلا المستعمر وإننى أنذر أننا لن نقف مكتوفى الأيدى أمام هذه التصرفات، التي يجب أن توقف إيقافا كاملًا ويجب أن يعلم الإخوان أن الثورة إنما أبقت عليهم بعد أن حلت جميع الأحزاب لاعتقادها أن في بقائهم مصلحة وطنية، فإذا ما ظهر أن في بقائهم ما يعرض البلاد للخطر فإننا لن نتردد في اتخاذ ما تمليه مصلحة البلاد، مهما كانت النتائج، فوعد أن يتصل بالمرشد في هذا الأمر وخرج ولم يعد حتى الآن‏.‏

وفى اليوم التالى استدعى البكباشى جمال عبدالناصر الأستاذ خميس حميدة، نائب المرشد، والأستاذ الشيخ سيد سابق، وأبلغهما ما قاله لحسن العشماوى في اليوم السابق فأظهرا الاستياء الشديد، وقالا إنهما لا يعلمان شيئًا عن هذا، وإنهما سيبحثان الأمر ويعملان على إيقاف هذا النشاط الضار‏.‏

ورغم هذا التحذير وهذا الإنذار استمر العمل حثيثًا بين صفوف الجيش والبوليس، وأصبح الكلام في الاجتماعات الدورية يأخذ طابع الصرامة وطابع الحقد، فكانوا يقلبون الخطط في هذه الاجتماعات بحثًا عن أسلم الطرق لقلب نظام الحكم، وكان الأحرار المنبثون في هذه التشكيلات يبلغون أولًا بأول عما يدور في كل اجتماع‏.‏

بعد أن تم تعيين الهضيبى مرشدا للإخوان لم يأمن إلى أفراد الجهاز السرى الذي كان موجودا في وقت حسن البنا برئاسة السيد عبدالرحمن السندى، فعمل على إبعاده معلنًا بأنه لا يوافق على التنظيمات السرية لأنه لا سرية في الدين، ولكنه في الوقت نفسه بدأ في تكوين تنظيمات سرية جديدة تدين له بالولاء والطاعة، بل عمد على التفرقة بين أفراد النظام السرى القديم ليأخذ منه إلى صفه أكبر عدد ليضمهم إلى جهازه السرى الجديد، وفى هذه الظروف المريبة قتل المرحوم المهندس السيد فايز عبدالمطلب بواسطة صندوق من الديناميت وصل إلى منزله على أنه هدية من الحلوى بمناسبة عيد المولد النبوى، وقد قتل معه بسبب الحادث شقيقه الصغير البالغ من العمر تسع سنوات وطفلة صغيرة كانت تسير تحت الشرفة التي انهارت نتيجة الانفجار‏.‏

وكانت المعلومات ترد إلى المخابرات بأن المقربين من المرشد يسيرون سيرا سريعا في سبيل تكوين جهاز سرى قوى ويسعون في نفس الوقت إلى التخلص من المناوئين لهم من أفراد الجهاز السرى القديم‏.‏
الشيخ محمد فرغلى
الشيخ محمد فرغلى

انقسام

وكان نتيجة ذلك أن حدث الانقسام الأخير بين الإخوان، واحتل فريق منهم دار المركز العام وقد حضر إلى منزل البكباشى جمال عبدالناصر بعد منتصف ليل ذلك اليوم الشيخ محمد فرغلى والأستاذ سعيد رمضان مطالبين بالتدخل ضد الفريق الآخر‏،‏ ومنع نشر الحادث، فقال لهم جمال إنه لن يستطيع منع النشر حتى لا يؤول الحادث تأويلا ضارا بمصلحة البلاد، أما من جهة التدخل فهو لا يستطيع أن يتدخل بالقوة حتى لا تتضاعف النتائج، وحتى لا يشعر الإخوان أن الثورة تنصر فريقا على فريق، وأنه يرى أن يتصالح الفريقان وأن يعملا على تصفية ما بينهما، فطلب منه الشيخ فرغلى أن يكون واسطة بين الفريقين وأن يجمعه مع الأستاذ صالح عشماوى، فطلب منه جمال أن يعود في اليوم التالى في الساعة العاشرة صباحًا، وأنه سيعمل على أن يكون الأستاذ صالح موجودا‏، وفى الموعد المحدد حضر الشيخ فرغلى ولم يمكن الاتصال بالأستاذ صالح عشماوى، وكان الشيخ فرغلى متلهفا على وجود الأستاذ عشماوى مما دعا البكباشى جمال أن يطلب من البوليس الحربى البحث عن الأستاذ صالح وإحضاره إلى المنزل، وتمكن البوليس الحربى في الساعة الثانية عشرة من العثور على الأستاذ صالح فحضر هو والشيخ سيد سابق إلى منزل البكباشى جمال وبدأ الطرفان يتعاتبان وأخيرا اتفقا على أن تشكل لجنة توافق على أعضائها الأستاذ صالح عشماوى للبحث فيما نسب إلى الإخوان الأربعة المفصولين على ألا يعتبروا مفصولين وإنما يعتبرون تحت التحقيق والعمل على أن يعود السلام المؤتمر الذي كان مزمعا عقده في دار المركز العام في عصر ذلك اليوم ولكن لم ينفذ هذا الاتفاق‏.‏

وفى يوم الأحد ‏10‏ يناير سنة ‏1954‏ ذهب الأستاذ حسن العشماوى العضو العامل بجماعة الإخوان وأخو حرم منير الدلة إلى منزل مستر‏ «كورزويل‏»‏ الوزير المفوض بالسفارة البريطانية ببولاق الدكرور الساعة السابعة صباحا ثم عاد لزيارته أيضا في نفس اليوم في مقابلة دامت من الساعة الرابعة بعد الظهر إلى الساعة الحادية عشرة من مساء نفس اليوم، وهذه الحلقة من الاتصالات بالإنجليز تكمل الحلقة الأولى التي روى تفاصيلها الدكتور محمد سالم‏.‏
عبدالرحيم علي يكتب:

القشة الأخيرة

‏كان آخر مظهر من مظاهر النشاط المعادى الذي قامت به جماعة الإخوان هو الاتفاق على إقامة احتفال بذكرى المنيسى وشاهين يوم ‏12‏ الجاري في جامعتى القاهرة والإسكندرية في وقت واحد، وأن يعملوا جهدهم لكى يظهروا بكل قوتهم في هذا اليوم وأن يستغلوا هذه المناسبة استغلالًا سياسيًا في صالحهم ويثبتوا للمسئولين أنهم قوة وأن زمام الجامعة في أيديهم وحدهم، وفعلًا تم اجتماع لهذا الغرض برئاسة عبدالحكيم عابدين حضره الأستاذ حسن دوح، المحامى، ومحمود أبوشلوع ومصطفى البساطى من الطلبة، واتفقوا أن يطلبوا من الطلبة الإخوان الاستعداد لمواجهة أي احتمال يطرأ على الموقف خلال المؤتمر حتى يظهروا بمظهر القوة، وحتى لا يظهر في الجامعة أي صوت آخر غير صوتهم وفى سبيل تحقيق هذا الغرض اتصلوا بالطلبة الشيوعيين رغم قلتهم، وتباين وجهات النظر، وعقدوا معهم اتفاقا وديا يعمل به خلال المؤتمر‏.‏

وفى صباح ‏12‏ الجاري عقد المؤتمر وتكتل الإخوان في حرم الجامعة وسيطروا على الميكرفون ووصل إلى الجامعة أفراد منظمات الشباب من طلبة المدارس الثانوية ومعهم ميكروفون مثبت على عربة للاحتفال بذكرى الشهداء فتحرش بهم بعض الطلبة الإخوان وطلبوا إخراج ميكروفون منظمات الشباب، وانتظم الحفل وألقيت كلمات من مدير الجامعة، وفجأة إذا ببعض الطلبة من الإخوان يحضرون إلى الاجتماع ومعهم‏ «نواب صفوي» زعيم فدائيان إسلام في إيران، حاملين إياه على الأكتاف وصعد إلى المنصة وألقى كلمة وإذا بطلبة الإخوان يقابلونه بهتافهم التقليدى الله أكبر ولله الحمد‏.‏

وهنا هتف طلبة منظمة الشباب الله أكبر والعزة لمصر، فساء طلبة الإخوان أن يظهر صوت في الجامعة مع صوتهم فهاجموا الشباب بالكرابيج والعصى وقلبوا عربة الميكروفون وأحرقوها وأصيب البعض إصابات مختلفة ثم تفرق الجميع إلى منازلهم‏.‏

حدث كل هذا في الظلام، وظن المرشد وأعوانه أن المسئولين غافلون عن أمرهم، لذلك فنحن نعلن باسم هذه الثورة التي تحمل أمانة أهداف هذا الشعب أن مرشد الإخوان ومن حوله قد وجهوا نشاط هذه الهيئة توجيها يضر بكيان الوطن ويعتدى على حرمة الدين‏.‏

ولن تسمح الثورة أن تتكرر في مصر مأساة باسم الدين ولن تسمح لأحد أن يتلاعب بمصائر هذا البلد بشهوات خاصة مهما كانت دعواها، ولا أن يستغل الدين في خدمة الأغراض والشهوات وستكون إجراءات الثورة حاسمة وفى ضوء النهار وأمام المصريين جميعا‏،‏ والله ولى التوفيق.
محاولة اغتيال عبدالناصر
محاولة اغتيال عبدالناصر

مجلس قيادة الثورة

‏15‏ يناير سنة ‏1954‏

محاولة اغتيال عبدالناصر

كان لا بد أن ترد الجماعة على قرار الحل، ولو بعد حين، فعقب التوقيع على اتفاقية الجلاء يوم 19 أكتوبر 1954، وأثناء إلقاء عبدالناصر خطابه بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر احتفالًا بتوقيع الاتفاقية في ميدان المنشية، قام عدد من كوادر الجماعة بمحاولة فاشلة لاغتياله، وردًا على هذه المحاولة قام النظام بشن حملة اعتقالات واسعة ضد أعضاء الجماعة، وفى نفس الليلة صدرت الأوامر باعتقال كل كوادر جماعة الإخوان، وتشكلت محكمة خاصة في أول نوفمبر 1954، سميت باسم «محكمة الشعب» برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعى لمحاكمتهم، كما صدرت أحكام بالإعدام شملت مجموعة من أبرز قيادات الجماعة والجهاز السرى منهم (محمود عبداللطيف، يوسف طلعت، وهنداوى دوير، وإبراهيم الطيب، وعبدالقادر عودة، ومحمد فرغلي)، ونفذ الحكم فعلًا. كما صدر حكم بإعدام حسن الهضيبى المرشد العام ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

واستمر الصدام بعد ذلك بين نظام حكم الرئيس الراحل عبدالناصر وجماعة الإخوان المسلمين، وتجسد ذلك أكثر ما تجسد في محاولة إحياء الجهاز السرى مرة أخرى عام 1965 بقيادة سيد قطب لاستئناف عمليات العنف مرة ثانية، ولكنها انتهت بالفشل، وتم إلقاء القبض على العناصر المتورطة في التخطيط وقدموا للمحاكمة وحكم على بعضهم بالإعدام وفى مقدمتهم سيد قطب، ومثل هذا التاريخ نقطة تحول خطيرة سواء على صعيد تطور الحركة الإسلامية بعد ذلك أو في علاقتها بالنظام السياسي.

خرج الإخوان المسلمون من السجون والمعتقلات عاجزين تماما عن استيعاب التغييرات السياسية والاجتماعية التي حدثت أثناء محنتهم كما يوضح الدكتور كمال مغيث في المرجع السابق الإشارة إليه، أو فهم التحول الذي طرأ على القوى الوطنية والديمقراطية من موقف المعارضة والمقاومة لثورة يوليو في ظل أزمات 1954، إلى موقف التأييد والمساندة في عام 1964، وفى الوقت نفسه لم يستطيعوا إدراك التغيير الاجتماعى الكبير الذي وقع أثناء وجودهم في السجون متمثلا في تحرير جماهير غفيرة من الفلاحين والعمال بقوانين الإصلاح الزراعى والتأميم، ومجانية التعليم... وغيرها وإنما خرجوا تملؤهم فكرة واحدة وهى الانتقام لما جرى للجماعة سنة 1954.
سيد قطب
سيد قطب

محاولة متأخرة للفهم

هكذا بدأ الإعداد لتنظيم 1965، الذي تبنى أفكار سيد قطب الراديكالية، وراح يبحث في كيفية الوسائل لتجد تلك الأفكار طريقها إلى التنفيذ العملى، ويقدم الدكتور عبدالله النفيسى تقييما متوازنا موضوعيا لطبيعة العلاقة بين ثورة يوليو والإخوان، ويبدأ بالتأكيد على مرحلة المودة والتعاون: تجمع مصادر كثيرة غير إخوانية على مشاركة الجماعة في تخطيط وتنفيذ الحركة المباركة، ليلة 23 يوليو 1952 وتؤكد هذه المصادر على وجود تلك العلاقة الخاصة بين تنظيم الضباط الأحرار والجماعة، ولقد تكشفت هذه العلاقة من خلال حرص التنظيم الأول على فتح ملف اغتيال البنا، مؤسس الإخوان، ومحاكمة المسئولين عن ذلك وإصدار أحكام ضد أربعة من ضباط الأمن في عهد فاروق، كذلك ظهرت هذه العلاقة الخاصة من خلال استثناء الإخوان من حل كل الأحزاب السياسية في البلاد 16/1/1953، رغم أن الإخوان كانوا وقتها يمارسون أنشطة سياسية أوسع بكثير من أنشطة الأحزاب الأخرى.

هذه العلاقة الخاصة بين الضباط الأحرار والإخوان كانت دائمًا وأبدًا مؤشرًا واضحًا على مشاركة الإخوان في تخطيط هذه العلاقة الخاصة لتتحول إلى تحالف إستراتيجي بين الهيئة الحاكمة الجديدة (مجلس قيادة الثورة) والإخوان، غير أن عوامل عديدة ضغطت باتجاه آخر تماما.

ثم ينتقل الدكتور النفيسى إلى مرحلة الصدام وأسبابه: هذه العوامل مجتمعة، رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة والإعلان الصريح حول ذلك في الصحف، ومشايعة نجيب ضد عبدالناصر، وحشد جمهور الإخوان في هذا الإطار أدخل الإخوان في صراع مباشر مع السلطة الجديدة (وهى سلطة لم تستقر بعد)، وهو صراع لم يستكمل الإخوان شروط مباشرته، ولم تتحمل السلطة الجديدة الشروع فيه أو حتى مجرد الاعتراف به بما أنها سلطة مضطربة لم تستقر بعد في النسيج الاجتماعى لمصر. وكانت معادلة الصراع تميل دون شك لصالح مجلس قيادة الثورة برئاسة عبدالناصر الذي كان يمتلك وقتها عنف جهاز الدولة وآلته الدعائية. ومرة أخرى وقع الإخوان في الخطأ: الخطأ في تقدير الموقف، وهو خطأ تكرر في السياق التاريخى للجماعة. ومن الممكن أن ينشأ الخطأ في تقدير الموقف من خلال المعلومات الخاطئة أو قل غير الدقيقة، وممكن كذلك أن ينشأ من طريقة وميكانيكية التعامل مع كشف المعلومات أيا كانت درجة دقتها، وفى جماعة الإخوان نشأ الخطأ في تقدير الموقف أكثر من مرة من خلال تزاوج السببين معًا، ونتج عن ذلك مذبحة للجماعة ذهب ضحيتها آلاف من رجالات وشباب الإخوان على أعواد المشانق وفى غياهب السراديب والزنزانات. وبدلا من أن يقف الإخوان للمراجعة والمدارسة والنقد الذاتى لأساليب العمل وكيفياته، ولا أقول لشيء آخر، يلاحظ المرء أن تفسيرهم للأحداث السياسية التي عصفت بهم لا يخلو من مسحات كربلائية تؤكد على حتمية المحنة- وأن المحنة ربانية- وأن ما أصابهم هو جزء من التمحيص الربانى للصفوف، وللأسف والتعليق هنا من جانبنا فما زال هذا هو الإطار السائد حتى الآن وسط أطياف جيل الحرس القديم المسيطر على مقدرات الجماعة حتى الآن.