خاص

أنصح بالطريقتين معاً. يجب أن نقرأ العهد القديم من البداية إلى النهاية، ولو مرة واحدة في حياتنا، من أول سفر (سفر التكوين) إلى آخر سفر منه. أما بالنسبة للقراءة اليومية أو القراءة المتواترة، فمن الأفضل أن تكون القراءة انتقائية. طريقة القراءة الانتقائية تعتمد على الاهتمامات والحاجات الروحية لكل قارئ.

الكنيسة بحد ذاتها تنصح بقراءة العهد القديم بصورة منتظمة. ففي كل يوم نجد أن الخدم الليتورجية مطعّمة بقراءات من المزامير: إنها “صلوات الكنيسة”، بحسب التقليد الرهباني، ويجب أن تُقرأ وتُقيّم بهذا المعنى. وفي خلال الصوم الكبير وبدل قراءة الرسائل والإنجيل يومياً فإننا يومياً فإننا تقرأ من العهد القديم: من التكوين والأمثال وأشعياء. تعطينا هذه القراءات مفهوماً واسعاً عن عمل الله في الخلق (الكون، الجنس البشري، الشعب العبري)، وهن تقليد “الحكمة” المُعطَى لقدامى العبرانيين، وعن التقليد النبوي، مع التأكيد على المسيّا القادم. بعد ذلك وفي غروب الأعياد الكبرى والمناسبات الأخرى، نجد ثلاث قراءات أو أكثر من العهد القديم. أفضل طريقة للتهيئة لهذه الأعياد هي أن نقرأ هذه النصوص الكتابية ونتأمل فيها، سوية مع نصوص العهد الجديد وذلك قبل المشاركة في الخدم الليتورجية. هذه القراءة قبل الخدمة يجب أن تكون القاعدة مع كل القراءات الكتابية في كل الخدم الليتورجية، بما في ذلك نص الرسالة والإنجيل قبل المشاركة في القداس الإلهي. هذه المشاركة مهمّة وأساسية إن أردنا حصاً أن نسمع وأن نفهم ماذا سيُقرأ في الخدمة.

أما بالنسبة للقراءة والتأمل الشخصي فإنه لا يوجد ترتيب ثابت يجب أن نقرأ وفقه أسفار الكتاب المقدس. إن حوادث حياتنا التي نمرّ بها قد تجعل بعض النصوص الكتابية مناسبة أكثر لنا من نصوص أخرى. فالمزامير مثلاً تتكلم عن حضور الله والغياب الظاهري للاحتفال والدينونة، للنصر والهزيمة، للرجاء واليأس. كل واحد منا يجب أن يختار قراءات معينة من المزامير تتحدث بصورة مباشرة أكثر عن احتياجاتنا المباشرة، ونحن ندرك في الوقت نفسه أن الظروف المتغيّرة يمكن أن تقودنا إلى قراءة مزمور معين بطرق مختلفة. الأمر نفسه صحيح فيما يتعلق بأسفار الأنبياء. فالمزمور 22/23 مثلاً يقدّم لنا صورة الرب كراعٍ يهتمّ بشعبه ويُطعمهم. لكنه يقدّم أيضاً تعزية للنفس التي تجد ذاتها في “ظل الموت”. وبصورة متشابهة فإن أسفار الأنبياء يمكن أن تتحدث عن الموت والهلاك الذي يعاني منهما شعب إسرائيل (وعن الدينونة التي نختبرها نحن كاستجابة لحالتنا الخاطئة). لكن أسفار الأنبياء تقدّم لنا أيضاً تعزيةً ووعداً بالسلام. لهذا من الأفضل أن نكون انتقائيين في قراءتنا، مختارين تلك النصوص التي تكلّمنا بصورة مباشرة وشخصية، بحسب ظروفنا الحالية.

يطرح السؤال التالي نفسه: كيف نقرأ العهد القديم؟ إن الكتبة الرسوليين وآباء الكنيسة قد أدركوا، مقل الرب يسوع نفسه، أن العهد القديم هو قبل كل شيء “كتاب مسيحي”. فالأسفار العبرية، بكلمات أخرى، ذات معنى لنا لا كوثائق تاريخية وعناصر ليتورجية وفرائض شرعية لإسرائيل فحسب. قبل كل شيء، إن هذه الأسفار تشير إلى مجيء مسيّا الله، “الممسوح”، الذي ظهر كيسوع الناصري. فلكي يفسّر المسيحيون الأوائل العلاقة بين العهدين القديم والجديد، فإنهم استعملوا “التفسير بحسب النموذج typology”، (أو التيبولوجيا). أي لقد رأوا في “نماذج” أو أشخاص العهد القديم صوراً نبوية لأشخاص وحوادث من العهد الجديد. فمثلاً: إن موسى مُعطي الناموس هو “نموذج” ليسوع، معطي الناموس الحقيقي (كما في الموعظة على الجبل، أن نحب الله والقريب)، هيكل العهد القديم هو صورة أو نموذج للكنيسة، والمن في البرية الذي قات الشعب العبري هو صورة نبوية للإفخارستيا المسيحية.


إذاً في فكر الآباء أن نميّز بين مستويين من المعنى موجودين في العهد القديم، وهو ما ندعوه المعنى “الحرفي” أو “التاريخي”، والمعنى “الروحي”. فوراء حرف النص، وبكلمات أخرى (المعنى الحرفي، أي الواضح من الكلمات نفسها باستعمالها الاعتيادي)، يوجد معنى أكمل وأعمق يشير إلى المسيح وإلى ملكوت الله. لقد لخّص يسوع كامل الناموس العبري بوصية واحدة: أن نحب. إن شريعة العهد القديم (أسفار موسى الخمسة من التكوين إلى التثنية) هي صور رمزية لشريعة أكمل من الحب يعلّمها يسوع ويجسّدها. يوجد مثالٌ آخر هو العبد المتألم في أشعياء (52-53). فالكنيسة دائماً ميّزت هذا الشخص على أنه صورة نبوية ليسوع، المذلول من شعبه، والذي كان يُعتقد أنه مسحوق من الله، مع ذلك وبالحقيقة فإنه حمل خطايا الشعب، وتألّم حتى الموت، وبالنهاية “رفعه” الله عالياً جداً (لاحظ كيف يُظهر القديس بولس في الرسالة إلى اهل فيليبي 5:2-11 أن يسوع هو تحقيق العبد المصوّر في أشعياء 53).

إذاً إننا نقرأ، كمسيحيين، العهدَ القديم ككتاب “مسيحي” (في الحقيقة هو مكتبة كاملة). ففي حين يبقي العهد القديم الكتاب المقدس العبري الذي يُظهر ناموس الله ووعوده لشعب إسرائيل، إلا أنه يحتوي أيضاً معنى أعمق يجد تحقيقه في المسيح. هذا الإدراك “لحضور المسيح في العهد القديم” هو إدراك قوي جداً في الخبرة المسيحية، بحيث أن آباء الكنيسة اعتبروا أن كل “ظهور” لله في العهد القديم هو ظهور لا الله الآب بل لله الابن. فابن الله الأزلي قبل تجسده في رحم العذراء مريم، هو موجدٌ وفاعل طوال تاريخ إسرائيل. كان موجوداً لدى الخلق (الله تكلّم فكان أمرٌ، تلك الكلمة المنطوق بها هي اللوغوس السرمدي، كلمة الآب أو ابنه). كان موجوداً في العليقة المشتعلة عندما صعد موسى إلى الحضور الإلهي ليستلم الشريعة. كان حاضراً أيضاً في “الصوت المنخفض الخفيف” (1ملوك 12:19) الذي اختبره إيليا. كان حاضراً طوال تاريخ إسرائيل كله، على أنه الرب (كيريوس) السرمدي. فقط بتجسده وموته وقيامته وتمجّده فإن المسيح سيُكشَف لكل الخليقة كما كان عليه وكما هو عليه إلى الأبد: “الرب” والذي يعني الله نفسه (فيليبي 9:2-11). (الأب جان بريك)

“لا تقترب من كلمات الأسرار المحتواة في الأسفار الإلهية بدون صلاة وبدون طلب معونة الله. قلْ: “يا رب، امنحني أن أنال وعياً للقوة التي فيها”. اعتبر الصلاة مفتاح فهْم الحقيقة في الكتاب المقدس” (القديس اسحق السوري)

“ضَعْ فينا خوف وصاياك الإلهية كي ندوس كل الشهوات الجسدية، ونسير سيرة روحية” (صلاة قبل قراءة الإنجيل المقدس)