"وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة مُتسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثنى عشر كوكباً وهي حبلى مُتمخضة ومتوجعة لتلد. وظهرت آية أخرى في السماء. هوذا تنين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلى رؤوسه سبعة تيجان، وذنبه يجر ثلث نجوم السماء فطرحها إلى الأرض. والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتى يبتلع ولدها متى ولدت. فولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد. واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه. والمرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع مُعد من الله لكي يعولوها هناك ألفاً ومئتين وستين يوماً" (رؤ 12).
إن المرأة الملتحفة بالشمس، التي تظهر في السماء، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً والقمر تحت قدميها، تلك المرأة التي تصرخ من ألم المُخاض، بحسب التفسير الدقيق هي أمّنا - بصفتها قدرة في حد ذاتها مميزة عن أبنائها - تلك التي سماها الأنبياء في الرؤيا التي رأوها عن الأزمنة الآتية تارة أورشليم، وتارة العروس، وتارة جبل صهيون، وتارة هيكل وخيمة الله، فهي القدرة التي تعطي الإستنارة بحسب قول النبي إشعيا، حين هتف الروح القدس بصوته: "قومي إستنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليكِ، لأنه ها هي الظلمة تُغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يُرى. فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك. إرفعي عينيك حواليك وأنظري قد اجتمعوا كلهم، جاءوا إليك. يأتي بنوكِ من بعيد وتُحمل بناتك على الأيدي" (إش 60).
إنها الكنيسة التي يأتي إليها أبنائها بكل سرعة، ويسرعون إليها من جميع الأطراف بعد القيامة. إنها تبتهج بإستقبالها النور الذي لا يتضاءل، وتتغطى بسطوع الكلمة (اللوغوس) وكأنه رداء يلفها، فأي زينة أخرى أكثر عظمة وكرامة من اللائق أن تُزين بها الملكة لكي تُزفَّ كعروس إلى الرب، إذ أنها قد تقبلت كساء النور، ودُعيت من قِبل الآب.
لنتأمل هذه المرأة الرائعة، المزينة زينة العذارى للعرس، فإن جمالها الظاهر الذي لا شائبة فيه يُشعّ كاملاً وثابتاً، وليس هناك أنوار لا تضاهيها سطوعها، لأن النور نفسه هو الذي يرتديها كالجلباب، وبمثابة حجارة كريمة فإن النجوم المتلألئة هي التي تحملها جبهتها على سبيل الزينة. وما هو رداء لنا، فإن النور هو رداء لها. وما هو لنا الذهب والحجارة الساطعة، فإن النجوم هي لها، لكن هذه النجوم ليست كالنجوم المزروعة في الفضاء السماوي، بل هي أسطع وأكثر تألقاً، حتى إن نجومنا ليست سوى صور ونُسَخ.
وعبارة "القمر تحت رجليها" ترمز إلى إيمان المطهَّرين من الفساد بتجديد المعمودية، لأن ضوء القمر يبدو أنه يغمرنا كالماء الفاتر، وأن كل ما هو رطب يتعلق بالقمر. فالكنيسة إذن ترتكز – برمز القمر - على إيماننا وفعل التبني، إلى أن يدخل ملؤ الأمم (رو 11)، فهي إمرأة في مخاض تحمل الناس الطبيعيين وتلدهم كأناس روحيين، وهي في ذلك أمّ بلا شك. وكما أن المرأة حين تحصل على الزرع الذكري، من دون أن يكون له شكل، تلد، بعد انقضاء الوقت، كائناً بشرياً كاملاً، هكذا أيضاً الكنيسة لا تنقطع عن الحبل في أحشائها، بالذين يلتجأون إلى الكلمة (اللوغوس)، وتكوّنهم وتصوغهم على صورة المسيح ومثاله، لتجعل منهم، بعد انقضاء الأيام، مواطنين لتلك الأبديات الطوباوية. لذلك من واجبها أن تُشرف على غسل المعمودية، بصفتها أم الذين اغتسلوا فيها. وهكذا تسمى الوظيفة التي تقوم بها في هذا الغسل "قمراً"، لأن الذين يُجددون فيها ويولدون ثانية يضيئون بضوء حديث أي بضوء جديد. وهذا ما يجعلهم يسمون أيضاً "المستنيرين الجدد".
قد يعترض البعض على تلك الأقوال ويسأل: "كيف يكون هذا الشرح موافقاً لفكر الكتاب المقدس، إذ أن سفر الرؤيا يوضح أن الكنيسة تلد ولداً ذكراً، بينما الشرح نسب الحمل والمخاض إلى أولئك الذين يغتسلون بالمعمودية؟ سنجيب إذاً: هيا أيها الممحاك، لأنك أنت أيضاً لا تقدر أن تثبت أن الولد هو المسيح نفسه، لأن سر تجسد الكلمة قد تمَّ قبل سفر الرؤيا بكثير، وإن أقوال يوحنا تعني الحاضر والمستقبل. هذا وإنّ المسيح - حين حبل به منذ عهد بعيد - لم يُخطف من ساعة الولادة إلى عرش الله خوفاً من إصابات الحيَّة. بل لهذا ولد، ونزل بذاته من عرش الآب، لكي يمكث ويصرع التنين الذي إعتدى على الجسد. فأنت مرغم على التسليم بأن الكنيسة هي التي تحبل وتشتاق إلى ولد، وبأنها تلد المُفتدين، كما ورد على لسان الروح القدس في فقرة من سفر إشعيا: "قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكراً. من سمع مثل هذا؟ من رأى مثل هذه؟ هل تمخض بلاد في يوم واحد؟ أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد مخضت صهيون بل ولدت بنيها" (إش 66). مِمَّن أفلتت، صهيون الروحية، إن لم يكن حتماً من التنين، لتلد شعب الرجولة، القادر على التخلي عن الأهواء المخنثة، وعن الإنحلال، ولتذهب نحو وحدة الله وتتخذ طبع الرجال عن طريق الورع.
فالكنيسة هنا تلد الولد الذكر، وذلك لأن المستنيرين ينالون حقاً ختم يسوع وصفاته الرجولية، فإن شبه الكلمة مطبوع فيهم، ويولد فيهم بواسطة المعرفة الحقيقية والإيمان الحقيقي، ولذلك في كل واحد منهم تتم ولادة المسيح بشكل روحي. هكذا تتمخض الكنيسة حتى يتصور المسيح فينا (غل 4)، لكي يولد كل واحد من القديسين بصفته مسيحاً، باشتراكه في المسيح، بحسب ما ورد في فقرة من الكتاب المقدس: "لا تمسُّوا مُسحائي ولا تُسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105)، وهذا يعني أن أولئك الذين أعتمدوا في المسيح أصبحوا مسحاء بشركة الروح القدس، والكنيسة هنا تساهم في استنارتهم وتحويلهم إلى صورة الكلمة (اللوغوس). هذا وأن تعليم بولس الرسول يؤيد ذلك بوضوح: "بسبب هذا احني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة في السموات وعلى الأرض، لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف 3). إذ أنه من الضروري، أن يرسم كلمة الحق في النفوس التي تعيش ولادة جديدة سمته وإشارته.
أما التنين العظيم الأحمر، ذلك الوحش المراوغ والمتنوع الوجوه إلى أبعد حد، برؤوسه السبعة وقرونه، وكاسح ثلث الكواكب، والمترصد ليبتلع ولد المرأة التي توشك أن تلد، هو إبليس الذي ينصب فخاخه لينال من المعمدين الذين نالوا النور، ويفتك بصورة المسيح وصفاته الواضحة فيهم، تلك العلامة وتلك الإستنارة اللتين ولدهما الكلمة فيهم. لكنه أخفق وفاتته الغنيمة، لأن المولودين جديداً خُطفوا إلى الأعالي بالقرب من عرش الله، وهذا يعني أن فكر النفوس المجدَّدة رُفع عالياً، حول الكرسي الإلهي وقاعدة الحق التي لا تُزعزع: فإن ذلك الفكر يتعلم أن ينظر إلى أمور العلي وأن يتصورها، لكيلا ينقاد لخداع التنين الذي يضغط ليجذبها نحو الأسفل، لأنه لا يحق له أن يلاشي الذين يرفعون رؤوسهم وأنظارهم إلى السماء. أما الكواكب التي يسلبها بطرف ذنبه ويُلقيها إلى الأرض فهي زمرات الهراطقة.
فالتي ولدت ولا تزال تولّد في قلوب المؤمنين الكلمة المذكَّر، والتي وصلت إلى البرية من دون أن يُنزل بها حنقُ الوحش شائبة وضرراً، هي أمَّنا الكنيسة. والبرّية التي ذهبت إليها، حيث حصلت على القوت مدّة 1260 يوماً، هي حقاً البرية التي لا ينبت فيها أي شر، القاحلة من كل جرثومة فساد، والتي هي منطقة صعبة المنال للجميع، ولكن القديسين يجدون فيها ثماراً رائعة وخليطاً رائعاً ونباتاً رائعاً وطرقاً رائعة، وهي تفيض بالحكمة، وتتفتح فيها الحياة. إنها حقاً منطقة الفضيلة، بما فيها من سحر الأشجار ومن سحر النسيم. هنا تستيقظ ريح الشمال وتهب ريح الجنوب فتقطر أطيابها (نش 4).
الرؤيا 12 - تفسير سفر الرؤيا
نرى هنا صورة للعداء الدائم بين إبليس وبين الكنيسة، والحرب التى يثيرها دائما ضد الكنيسة. ولكنه عدو مهزوم ساقط مطرود من السماء بينما أن الكنيسة سمائية.
هنا نرى الكنيسة مشبهة بإمرأة فهى عروس المسيح. وفى إصحاح 17 نرى إمرأة أخرى أسماها الزانية العظيمة وهذه عروس الشيطان إذاً نحن أمام صورتين فى سفر الرؤيا:-
الأولى:- هى الكنيسة كعروس وعريسها المسيح (رؤ1:12 + رؤ2:21).
الثانية:- هى بابل الزانية العظيمة وعريسها الشيطان (رؤ1:17-7).
آية 1 "و ظهرت اية عظيمة في السماء امراة متسربلة بالشمس و القمر تحت رجليها و على راسها اكليل من اثني عشر كوكبا".
إمرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها = هذه الصورة تذكرنا بسفر نشيد الأناشيد، الذى هو حوار بين العريس (المسيح) والعروس (الكنيسة) وفيه يصف العريس عروسه بأنها "جميلة كالقمر طاهرة كالشمس" وهى جميلة لأنها كالقمر، والقمر يعكس نور الشمس، والشمس إشارة للمسيح شمس البر. فكما هو نور للعالم (يو12:8) فهى نور للعالم (مت14:5) هى تستمد جمالها منه، بل هى تعكس جماله. هو سر جمالها. وهى طاهرة كالشمس لأنها متسربلة بالشمس. لا يظهر عريها ولا خطاياها، فهى طالما فى عريسها المسيح لا يظهر منها سواه "قد صالحكم الآن فى جسم بشريته بالموت ليحضركم قديسيين وبلا لوم ولا شكوى أمامه" (كو22،21:1) لقد لبست المسيح (رو14:13).
آية عظيمة فى السماء = فهذه العروس سماوية
1. تصلى أبانا الذى فى السموات إذاً أباها سماوى.
2. سيرتها فى السماوات (فى 20:3). سيرتها اي انها مواطنتها سماوية.
3. عريسها أقامها معه وأجلسها معه فى السماويات (أف6:2). وهى آية، فكيف تكون وهى أرضية. وتحيا فى نفس الوقت فى السماويات. هذا لأن عريسها فى وسطها "ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" (مت20:28) وبحسب وعده "لأنه حيثما إجتمع إثنان أو ثلاثة بإسمى فهناك أكون فى وسطهم" وهذا معنى"طأطأ السموات ونزل" (مز 18: 9 )
والإمرأة هى الكنيسة. وهناك من قال أنها العذراء ولا خلاف بين الرأيين، فالعذراء هى أم المسيح، وجسد المسيح هو كنيسته. والكنيسة ليست هى كنيسة العهد الجديد فقط، بل هى كنيسة العهد القديم والعهد الجديد. والمسيح أتى ليجعل الإثنين واحدا (أف14:2). وعلينا أن نفهم أنه ليس هناك دين يهودى ودين مسيحى، فالدين المسيحى هو إمتداد وتكميل للدين اليهودى والمسيح " ما أتى لينقض بل ليكمل " وكنيسة العهد الجديد هى إمتداد لكنيسة العهد القديم. هما جسد واحد بلا إنفصال. المدخل لهذا الجسد هو رقم 12
12= 3 [ (1) المؤمنين بالله مثلث الأقانيم ] × 4 (كل العالم)
[ (2) الذين يعمل فيهم الروح القدس الأقنوم الثالث ] هو رقم يشير للعمومية
[ (3) الذين لهم قيامة من موت الخطية ] ويشير لكل العالم.
ولذلك نلاحظ أن كنيسة العهد القديم مؤسسة على 12 سبطا. وكنيسة العهد الجديد مؤسسة على 12 تلميذا. وكلاهما جسد واحد تمثله هذه المرأة.
إذا كنيسة العهد الجديد هى إمتداد لكنيسة العهد القديم، ولكن من رفض الإيمان بالمسيح من اليهود خرج من الكنيسة ولم يعد يحسب من شعب الله.
ولاحظ أن الكنيسة مكانها فى السماء، تعيش غريبة على الأرض. والأرض أو العالم شبه بالبحر، فمياهه (ملذاته) مالحة تصيب كل من يشرب منها بالعطش، وأمواج البحر تشبه العالم فى أنه يرفع الإنسان يوما ويخفضه يوما. والعالم مشبه بالبحر، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش فى البحر، بل هو سيموت.
متسربلة بالشمس = المسيح هو شمس البر (ملا2:4). وبولس الرسول يقول إلبسوا المسيح (رو14:13). إذا الكنيسة لها صورة عريسها أى صورة المسيح.
والقمر تحت رجليها = القمر إشارة للقديسيين، فالقمر يعكس نور الشمس، ويستمد ضياؤه من الشمس، وهكذا القديسين هم نور للعالم إذ يعكسون نور المسيح الذى فيهم. وكونهم تحت قدميها فهذا يشير لموت القديسين سواء بإستشهاد أو موت طبيعى فالموت موضوع لكل إنسان (عب27:9).
على رأسها إكليل من إثنى عشر كوكبا = هم المؤمنين بالله فى كل الأزمنة، وهم تاج جهاد الكنيسة دائما، هم يضيئون جبين الكنيسة وينشروا نورها فى كل العالم بإيمانهم وقداستهم. وقد يكونوا هم الأسباط أو تلاميذ السيد المسيح (12) ويمكننا فهم الصورة السابقة تاريخيا. فكون المرأة تلد إبنا ذكرا كما سيأتى فى آية 5. فالإبن الذكر هو المسيح، وتكون المرأة هنا هى كنيسة العهد القديم (الشعب اليهودى). وبعد أن تلد الإبن الذكر لا يعود هناك يهودى وأممى، بل الكل كنيسة واحدة هى القمر. وكون القمر تحت رجلى المرأة فهذا يعنى أنه بعد أن أدت كنيسة العهد القديم دورها وولد منها المسيح جاءت الكنيسة، بمعنى أن الكنيسة تاريخيا تأتى بعد الشعب اليهودى، وهذا تم التعبير عنه بأنها تحت رجلى المرأة.
آية2 "و هي حبلى تصرخ متمخضة و متوجعة لتلد".
وهى حبلى = الكنيسة أم ولود، ولكن ولادتها لأبنائها تكون بصعوبة = تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد = هكذا قال بولس الرسول "يا أولادى الذين أتمخض بكم إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غل19:4). وبالنسبة لكنيسة العهد القديم فقد كانت تصرخ لتلد المسيح قائلة ليتك تشق السموات وتنزل (أش1:64) والمسيح أتى فعلا منهم وبالذات من سبط يهوذا. واليهود كانوا فعلا متلهفين لمجىء هذا المخلص الذى وُعِدوا به زمنا طويلا، بل حتى السامريين كانوا ينتظرونه كما قالت السامرية للسيد "أنا أعلم أن مسيا الذى يقال له المسيح يأتى" (يو25:1).
آية 3 "و ظهرت اية اخرى في السماء هوذا تنين عظيم احمر له سبعة رؤوس و عشرة قرون و على رؤوسه سبعة تيجان".
آية آخرى فى السماء = فالشيطان أصله من السماء وسقط (أش12:14-15) + (مز11:28-17) هوذا تنين = إشارة لقوته الهائلة وقوته.
أحمر = فالسيد المسيح قال عنه كان قتالا للناس من البدء يو 44:8. وكان السبب بخداعه لأبوينا الأوليين آدم وحواء فى هلاك البشر. لذلك ففى نفس الآية يو 44:8 التى يقول فيها السيد عن الشيطان أنه كان قتالا للناس من البدء، يضيف أنه كذاب وأبو الكذاب وأنه ليس فيه حق، فبخداعه أهلك البشر. ولكم أثار أيضا إضطهادات دموية ضد المؤمنين سال فيها دم كثير.
وهو لا يكف عن التخريب والتدمير محاولا إهلاك أولاد الله. فالرأس إشارة للفكر.
له سبعة رؤوس = رقم 7 هو رقم الكمال والمعنى أنه دائم التفكير فى القتال. وقد تشير الرؤوس السبعة للسبعة الممالك التى يعمل فيهم إبليس ليضطهدوا شعب الله كما سيأتى ذكره فى إصحاح 17، وما يؤيد هذا أن على رؤوسه سبعة تيجان = فهو يتحكم فى ملوك هذه الدول ليثيروا إضطهادا ضد شعب الله. وكون ان له 7 تيجان ففى هذا إشارة إلى أنه ينصب نفسه ملكا فى قلوب الأشرار، ويسيطر على أفكارهم وتصرفاتهم.
وعشرة قرون = القرن رمز للقوة، فهو يستخدم كل شدة قوته ضد شعب الله لإفساد الإيمان. وقد تعنى العشرة قرون 10 ملوك يساندون الوحش عند ظهوره لتحطيم الإيمان. وقد يفهم رقم 10 على أن عمل الشيطان دائما هو الحث على كسر الوصايا العشر.
آية 4 "و ذنبه يجر ثلث نجوم السماء فطرحها الى الارض و التنين وقف امام المراة العتيدة ان تلد حتى يبتلع ولدها متى ولدت".
نجوم السماء = نفهم من هذا أن الشيطان، الملاك الساقط جذب معه ثلث الملائكة فصاروا شياطين (يه 6). وربما تشير لنجاحه فى إسقاط عدد كبير من المؤمنين. فطرحها إلى الأرض = لم يعودوا بعد فى السماء، وصار مجال عملهم الأرض. وهو حاول أن يبتلع المسيح الذى سيولد، إبتداء من إثارته لهيرودس ليقتل المسيح الطفل فقتل أطفال بيت لحم وحتى محاولته أن يمسك نفسه عند موته على الصليب كما تعود أن يمسك كل نفوس بنى آدم ليأخذهم عند موتهم إلى الجحيم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لكن المسيح الذى بلا خطية إنتصر عليه وأمسكه، وذلك شرحه السيد المسيح حينما قال " رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء (يو30:14). فالمسيح لم يقبل من يده أى خطية. ولذلك قام المسيح من الموت منتصرا على الموت وعلى إبليس. ونرى فى الآية الآتية صعود المسيح بجسده للسماء ليعد لنا مكانا.
آية 5 "فولدت ابنا ذكرا عتيدا ان يرعى جميع الامم بعصا من حديد و اختطف ولدها الى الله و الى عرشه".
فولدت إبنا ذكرا = هو المسيح وهو ذكر لأنه عريس الكنيسة. عتيدا = مزمعا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد = رمز العدل والقوة والإقتدار، وهذا ما قيل فى (مزمور 9،8:2) عن المسيح الذى أراد إبليس إفتراسه، والمسيح هو الراعى الذى يضم إلى حظيرته جميع الأمم، ويسحق قوى الشر بعصا من حديد.
وإختطف ولدها إلى الله = هذا إشارة لصعود المسيح بالجسد للسماء ليرفع البشرية الساقطة للأعالى. وقوله إختطف إشارة لأن لاهوته المتحد بناسوته هو الذى رفع الناسوت للسماء.
آية 6 "و المراة هربت الى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولها هناك الفا و مئتين و ستين يوما".
المرأة هربت إلى البرية = هى الكنيسة التى تعيش فى العالم كأنه برية، حاسبة إياه أنه برية، غير مهتمة بملذاته، بعيدا عن ضجيج العالم، شاعرة بغربة فى هذا العالم، كما نصلى فى القداس قائلين "ونحن الغرباء فى هذا العالم". وهذه الكنيسة التى تحيا فى العالم حاسبة أنه خراب بالنسبة لها (شرور العالم) يلاطفها الله قائلا "لكن هأنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها" (هو14:2).
حيث لها موضع معد من الله = فالله يعد لكل منا مكانا يعيش فيه وله عمل يشهد به لله. لكى يعولها = روحيا وماديا بل ورعاية كاملة، كما عال بنى إسرائيل بالمن فى سيناء وإحدى صور الهروب هى صورة هروب الرب يسوع مع أمه العذراء إلى ارض مصر. وقيل أنهم أقاموا فى مصر ثلاث سنوات ونصف. فمن يريد أن يهرب من التنين يذهب إلى البرية.
الف ومئتين وستين يوما = أى 3.5 سنة. وهذا الرقم يعنى أنه وضع مؤقت لأن الهروب للبرية هو وضع مؤقت غير دائم، فالكنيسة ستحيا فى صراع لكن ليس على الدوام، بل ستأتى النصرة فى النهاية... وكأن المسيح مازال يردد "أما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة" (مت40:26). ونلاحظ أن الـ1260 يوما هى مدة سيطرة ضد المسيح أو مدة حكمه (رؤ2:11) لذلك قد تفهم هذه الآية أن الكنيسة ستهرب من وجه ضد المسيح فعلا إلى الجبال والبرارى من شدة الضيق وهناك يعولها الله. ولكن هذا لن يتضح الآن وإنما سيعلن فى وقته، ووقتها سنفهم ما علينا عمله، بل سنكتشف من كلمات سفر الرؤيا التى سيتضح معناها وقتها فهى مكتوبة الآن بصورة شفرية، وستنحل الشفرة وقتها وسنفهم إلى أين نهرب. وهناك فى البرية سيعولوها = لأن فى وقت الضيقة العظيمة الله سيعول كنيسته (بواسطة ملائكته) بطريقة ما. ولاحظ كما سنرى فى إصحاح (13) أن أولاد الله لن تكون لهم سمة الوحش التى بها يبيعون ويشترون، فهم سيكونون غير قادرين على أن يحيوا وسط المجتمع. فلابد أن يجد الله طريقة بها يعول شعبه فى البرية كما كان يعول القديس الأنبا بولا بواسطة غراب، فالله لابد أنه سيحفظ كنيسته وسط هذه الضيقة العظيمة. إذاً الآية تفهم بطريقتين:-
1. الـ3.5 سنة هى مدة رمزية تشير لكل أيام غربة الكنيسة على الأرض.
2. وتفهم حرفيا أنها مدة فعلية تهرب فيها الكنيسة للبرارى أيام ضد المسيح.
آيات 8،7 "و حدثت حرب في السماء ميخائيل و ملائكته حاربوا التنين و حارب التنين و ملائكته. و لم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء".
قبل أن يبدأ الصراع بين الشيطان والكنيسة أى أبناء الله، دار صراع قديما قبل خلقة الإنسان بين الشيطان وبين الله نفسه وإشترك الملائكة فى هذا الصراع. وما صراع الشيطان مع الكنيسة الآن إلا إمتداد لذلك الصراع القديم. وهذا الصراع لن ينتهى سوى بإلقاء الشيطان فى البحيرة المتقدة بالنار فى نهاية الزمان (رؤ10:20) والشيطان كان ملاكا سماويا من طغمة الكاروبيم، ولكنه نسب جماله وقوته ونوره إلى نفسه وقال أصير مثل العلى (أش14:14). فهو تصور أنه يمكنه أن ينير من نفسه، وذلك بالإنفصال عن الله، ولكن الملاك ميخائيل قاومه قائلا من مثل الله = مى كا ئيل ومن هنا أخذ إسمه ميخائيل الذى يعنى من مثل الله.
ولما إرتفع الشيطان فى قلبه وتكبر وقاوم الله وحاول أن يتساوى مع الله إنقطع تيار النور من حياته فإظلم كله وحصل على لقب سلطان الظلمة وإستحالت توبته وإستمرت ظلمته. وهناك فرق بين سقوط الإنسان وسقوط الشيطان. فالملائكة عموما مسئولين عن تصرفاتهم مسئولية كاملة وهم لا يترددوا فى قرار يتخذونه. وهذا تم التعبير عنه فى سفر حزقيال هكذا "أرجلها أرجل قائمة وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل.. لم تدر عند سيرها" (حز9،7:1) والشيطان هو ملاك ساقط له هذه المواصفات نفسها فهو لا يتردد فى قرار يتخذه، فلما إتخذ قراره بالإنفصال عن الله لم يتردد ولم يندم ولن يقدم توبة مهما حدث، أما الإنسان فنجد كثيرين بعد أن يسقطوا يبكون ويندمون. أضف لهذا أن الشيطان بعد سقوطه هو الذى أغوى الإنسان على السقوط، أما الشيطان نفسه فلم يغوه أحد.
بل بعد السقوط إستمر الشيطان فى غواية الإنسان لإسقاطه ثم الشكاية ضده (أى9:1) وهو لم يكتفى بمضايقة الإنسان بل ضايق الملائكة أنفسهم (دا13:10). وكان يقبض على أرواح الأشرار والأبرار قبل المسيح ويلقيهم فى الجحيم. وحاول إستعمال نفس الأسلوب مع المسيح على الصليب إلا أن المسيح هزمه بقداسته المطلقة فى حياته إذ لم يقبل من يده أى خطية وقال "من منكم يبكتنى على خطية" لذلك إستطاع أن يقول "رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء". بل أن المسيح بموته هزم الشيطان تماما لذلك قال المسيح قبل ذلك "رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء". وكل من هو ثابت فى المسيح الآن يستطيع أن يقول "رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء" لذلك يقول المسيح "إثبتوا فى وأنا فيكم". وواضح طبعا أن سبب تردد الإنسان وضعفه هو جسده أما الشيطان فهو روح بلا جسد فهو غير قابل للندم.
إذا صراع الشيطان ليس قاصرا على العالم المادى بل هو صراع روحى قديم مكانه السماء. والشيطان سقط أولا حين قال "أصير مثل العلى" فأسقطه الله من مكانته وإرتفع ميخائيل الذى قال من مثل الله (راجع آية 4:13).
وبسقوط الشيطان لم يوجد مكانهم بعد ذلك فى السماء = أى لم يوجد فى دائرة الخضوع الإلهى. ولم يعد يحيا فى السماء بنورها وفرحها ومجدها، بل صار ظلمة وفقد نوره وفرحته بالحضور الإلهى. ولكن الله فى سماحته كان يسمح له بأن يوجد وسط بنى الله أى الملائكة. ولكنه كان متى وجد أمام الله يشتكى ضد أولاد الله كما سمعنا فى قصة أيوب.
ثم سقط ثانيا فى معركة الصليب، بل أعطى للمؤمنين أن يدوسوه (لو19،18:10) + (رو20:16). وبعد معركة الصليب تم تقييد الشيطان. وسيكون تقييده لمدة ألف سنة رمزية (رؤ1:20-3).
ونلاحظ أن بعد سقوطه من السماء حاول بكل طاقاته أن يبث سمومه لإفساد البشر، ولكن بعد تقييده فقد سلطانه، إلا أن الله سيطلقه فى نهاية الأيام، وعند ذلك سيطلق كل طاقاته للإنتقام فيما تبقى له من وقت ليجذب معه للجحيم أكبر عدد ممكن. وسيكون هذا بأن الشيطان يضع كل قوته فيمن يسمى الوحش.
آية 9 "فطرح التنين العظيم الحية القديمة المدعو ابليس و الشيطان الذي يضل العالم كله طرح الى الارض و طرحت معه ملائكته".
التنين = نظرا لقوته الهائلة وقسوته فالتنين ضخم ومرعب
الحية القديمة = له خبرة طويلة فى الخداع بمكر وخبث وفى عداوة للبشر.
إبليس = المفترى ظلما.
الشيطان = المعاند.
آية 10 "و سمعت صوتا عظيما قائلا في السماء الان صار خلاص الهنا و قدرته و ملكه و سلطان مسيحه لانه قد طرح المشتكي على اخوتنا الذي كان يشتكي عليهم امام الهنا نهارا و ليلا".
الآن بعد الصليب تكشف للسمائيين ضعف إبليس. وسمعت صوتا عظيما = تعبيرا عن صوت تسابيح السمائيين لعظم أفراحهم بسقوط الشيطان. صار خلاص إلهنا = بالدم الثمين سيخلص البشر. إخوتنا = الملائكة قيل عنهم بنى العلى ونحن البشر صرنا بالفداء أبناء الله، وبذلك صرنا إخوة للملائكة. الذى كان يشتكى = فهو كان يضل ثم يشتكى.
آية 11 "و هم غلبوه بدم الخروف و بكلمة شهادتهم و لم يحبوا حياتهم حتى الموت".
لم يحبوا حياتهم حتى الموت = هم آثروا الموت على الحياة محبة فى المسيح.
وهذه هى أنشودة بولس الرسول (رو35:8-39)، ورأينا الشهداء الذين لم يحبوا حياتهم حتى الموت بالملايين عبر تاريخ الكنيسة. وهذا هو أعظم إنتصار على إبليس، فإبليس سلاحه هو محبة العالم وملذاته. أما من أحب حياة الأرض فسيهلك "فويل لساكنى الأرض" آية 12 فإبليس سيدمر الأرض (إصحاح 18).
وبكلمة شهادتهم = أى يشهدوا للمسيح فى حياتهم، أى مسيحيين قلبا وقالبا.
آية 12 "من اجل هذا افرحي ايتها السماوات و الساكنون فيها ويل لساكني الارض و البحر لان ابليس نزل اليكم و به غضب عظيم عالما ان له زمانا قليلا".
من اجل هذا إفرحى = الفرح بالخلاص الذى تم، والفرح لأن الأيام قد إقتربت، ووصولنا للسماء صار قريبا. ولاحظ فرح السمائيين بأننا نحن الأرضيين سنصير معهم فى السماء،حقا لقد صرنا كنيسة واحدة، وهذا ما عمله المسيح بفدائه، لقد جمع فيه كل شىء، ما فى السموات وما على الأرض (أف10:1). وبهذا نفهم قول السيد المسيح. "يصير فرح فى السماء بخاطىء واحد يتوب" ونفهم لماذا حملت الملائكة نفس لعازر المسكين حين مات، فهم فرحون بوصوله للسماء... ولكن ويل لساكنى الأرض = فالشيطان لن يكف عن صراعه مع الكنيسة المجاهدة التى على الأرض، وعلينا أن نفهم أننا لابد وسنجتاز هذا الصراع. ولكن لنفهم أن الذى يحارب فعلا هو المسيح، هو يحارب فينا، وما نحن سوى فرس أبيض، ما علينا سوى الإلتصاق به والثبات فيه. فكل ما هو مطلوب من الفرس أن يظل ملتصقا بالفارس. لذلك يقول السيد المسيح "إثبتوا فى وأنا فيكم". وبهذا مع الآلام التى سنراها لابد وسننتصر لأن المسيح قال ثقوا أنا قد غلبت العالم (يو33:16). وذروة هذه الألام التى ستعانى منها الكنيسة ستكون فى ايام ضد المسيح.
آية 13 "و لما راى التنين انه طرح الى الارض اضطهد المراة التي ولدت الابن الذكر".
هنا نرى التنين يشن هجوما شيطانيا ضد الكنيسة. والمسيح هو الإبن الذكر.
آية 14 "فاعطيت المراة جناحي النسر العظيم لكي تطير الى البرية الى موضعها حيث تعال زمانا و زمانين و نصف زمان من وجه الحية".
النسر العظيم = راجع (خر4،3:19) + (تث12،11:32) لترى أن النسر العظيم هو الله الذى حمل شعبه من مصر إلى برية سيناء. والنسر من عاداته أنه يضع أفراخه على جناحيه ويطير بهم عاليا ثم يتركهم ليسقطوا فيتعلموا الطيران، ولكنهم إذا تعبوا يستقروا على جناحى وجسم الآب الطائر تحتهم ليحميهم ولا يتركهم يسقطون. وهكذا فى حربنا مع إبليس قد يتظاهر الله بأنه تركنا ولكن ذلك حتى نتعلم وسائل وفنون الحرب ضد ابليس، لكن الله دائما هو هناك، عينه علينا دائما ويعطينا جناحيه ليسندنا ويرفعنا للسماء عاليا، ويظلل علينا وقت التجارب. والله يجدد كالنسر شباب أولاده (أش31:40). والمؤمن بالمسيح يعلمه المسيح محبة السماويات والإستهانة بالأرضيات، ويعلمه الهروب للبرية، أى يحيا غريبا على الأرض زاهدا فيها متلذذا بالسماويات. ومرة ثانية وثالثة نسمع عن الزمان والزمانين والنصف زمان أى (3.5) بمعنى أن هذا الوضع هو وضع مؤقت علينا إحتماله بصبر. وربما هو أيضا إشارة لفترة الـ1260 يوما التى ستهرب فيها الكنيسة إلى البرية من وحشية ضد المسيح. فنحن الآن ومنذ صعود المسيح نعيش فى غربة برية هذا العالم، نحارب الشيطان بتقشفنا وزهدنا فى ملذات هذا العالم، ثم فى نهاية الأيام قد نهرب فعلا إلى مكان يعده لنا الله.
آية 15 "فالقت الحية من فمها وراء المراة ماء كنهر لتجعلها تحمل بالنهر".
كنهر = النهر يشير لنعم وخيرات الروح القدس (يو37:7-39) ولكن ما يلقيه إبليس يقال عنه كنهر = أى تعاليم زائفة مخادعة يخدع بها الأبرياء = وهذا النهر المخادع هو لذات وشرور هذا العالم، ومن ينخدع يموت. وهو تعاليم الهراطقة والفلسفات المخادعة وهذه تبدو كنهر ولكنها مرة كالإفسنتين وقاتلة كالسم. وهذا النهر لن يضر المرأة فلها جناحي النسر العظيم أى تحيا فى السمائيات والروحيات. النسر أعطاها إمكانية أن تهرب من فم التنين.
آية 16 "فاعانت الارض المراة و فتحت الارض فمها و ابتلعت النهر الذي القاه التنين من فمه".
فأعانت الأرض المرأة = هذه تعنى أن هناك أحداث تجرى على الأرض أى فى العالم خارج الكنيسة وهى بسماح من الله، وبسببها ينقذ الله الكنيسة. أمثلة:- إنتصار فارس على بابل وقيام دولة الفرس كان سببا فى تحرر شعب الله من يد بابل ورجوعه لأورشليم وبناء الهيكل.
مثال آخر من العصر الحديث. فلقد إضطهدت الدول الشيوعية المسيحيية إضطهادا رهيبا. وفى السنوات الأخيرة سمح الله بأحداث بسببها سقطت الشيوعية وأنقذ الله شعبه وكنيسته. وقد تنقذ الأرض المرأة من ملذات العالم بإثارة حروب ينسى معها الناس ملذات هذا العالم ويلجأون لله وهكذا. وقد يكون إنتشار الأوبئة والأمراض فى الأرض هو بسماح من الله، هذه الأرض قدمت هذه الأمراض لشعب الله ليزهد فى أمور هذه الدنيا ويرجع لله. وكم من مريض رجع لله وتحول إلى قديس وخلصت نفسه. وهذا ما قاله بطرس الرسول " فإن من تألم فى الجسد كف عن الخطية (1بط1:4). وربما فى أيام ضد المسيح تكثر الحروب مما يضعف ويفسد قوة ضد المسيح.
آية 17 "فغضب التنين على المراة و ذهب ليصنع حربا مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله و عندهم شهادة يسوع المسيح".
التنين يغضب ممن يحفظ وصايا الله. ولكن بحفظنا وصايا الله نثبت فى المسيح، وحينما يثير التنين حربا علينا يغلبه المسيح الذى نحن ثابتون فيه.
الرؤيا 12 - تفسير سفر الرؤيا
مقاومة التنين للكنيسة
في هذا الأصحاح تظهر الكنيسة المجاهدة:
1. مقاومة إبليس للكنيسة 1 – 6.
2. مساندة السماء للكنيسة 7 – 12.
3. اشتداد المقاومة 13 – 17.
1. مقاومة إبليس للكنيسة
"وظهرت آية عظيمة في السماء،
امرأة متسربلة بالشمس، والقمر تحت رجليها،
وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا.
وهى حُبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد"[1-2].
من هي هذه المرأة التي لها هذا الوصف؟ والتي ولدت الابن؟ والتي قاومها إبليس وقد هربت منه؟ والتي لا يزال يقاومها ويقاوم نسلها إلى أن يُطرح في البحيرة المتقدة بالنار؟ أقرَّ آباء الكنيسة الأولى أن هذه المرأة التي ولدت لنا الرب يسوع هي الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين منذ عهد الآباء، أي منذ آدم إلى نهاية الدهور.
يقول الأسقف فيكتورينوس:[إنها كنيسة الآباء والأنبياء والقديسين والرسل التي كانت تتسم بالتنهدات والآلام حتى رؤية السيد المسيح، ثمرة شعبها بالجسد الذي وعدوا به زمنًا طويلاً، آخذًا الجسد من نفس الشعب. والتحافها بالشمس يشير إلى رجاء القيامة في ظلمتهم. والقمر (تحت رجليها) يشير إلى سقوط أجساد القديسين تحت إلزاميّة الموت غير المنتهي... وهم منيرون كالقمر في ظلمتهم. والأكاليل من الإثنى عشر كوكبًا هو جوقة الآباء الذين منهم أخذ السيد المسيح جسدًا.]
لكن للأسف أخذ بعض المحدثين الغربيين ونقل عنهم بعض الشرقيين مثل هذا التفسير بصورة مشوهة فنادوا بأن هذه المرأة هي الشعب اليهودي وأن ما يتبع هذا خلال الإصحاحات (12-14) إنما يخص الشعب اليهودي. لكن يليق بنا أن نفهم "الكنيسة" في المفهوم الآبائي السليم من نفس التفسير السابق أنها كنيسة الآباء والأنبياء والقديسين والرسل.
بدأت الكنيسة بآدم ودخل في عضويتها الآباء مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وأخنوخ... وفي وقت الناموس انضم إلى عضويتها الشعب اليهودي ومعه بعض الأممين الداخلين الإيمان. في هذه الفترة جاء ربنا يسوع متجسدًا من الكنيسة، كنيسة العهد القديم، من اليهود، لكن خرج اليهود كيهودٍ من العضوية في الكنيسة، إذ انحرفوا عن الإيمان رافضين الخلاص، وبهذا لم يعودوا شعبًا مؤمنًا أو كنيسة أو إسرائيل، بل صاروا غير مؤمنين، وهم بهذا لم يغلقوا باب الكنيسة ولا ماتت بموتهم ولا انحرفت، لكن دخل الأمم كامتداد للكنيسة. وبهذا فإن الحديث عن المرأة يخص الكنيسة الواحدة التي فوق حدود الزمن والجنس. فالحديث في هذا الأصحاح يخص الكنيسة منذ نشأتها إلى نهاية الأجيال.
وحينما نقول "الكنيسة" لا نستطيع أن نفصلها عن العذراء مريم التي ارتبطنا بها في شخص السيد المسيح كأم جميع الأحياء[100]. فهي أيضًا كما يقول الآباء الأولون هي المرأة الملتحفة بالشمس والقمر تحت رجليها، إذ سكنها ربنا يسوع شمس البرّ، ونالت مجدًا سماويًا... التي ولدت الابن البكر[101].
وبنفس الروح وبغير أي تعريج نقول إن ما رآه الرسول في هذا الإصحاح يخص كنيسة العهد الجديد، لأنها غير منفصلة عن كنيسة العهد القديم، ولا مستقلة عنها، بل ينسب لها آباء العهد القديم والأنبياء والناموس والمواعيد. فإذ جاء ربنا يسوع متجسدًا من العذراء مريم أو من اليهود، إلا أنه يمكننا أن نقول أنه جاء متجسدًا من الكنيسة التي تعتز بعضوية العذراء مريم، والتي امتدت إلى الوراء حتى حملت في عضويتها جميع الذين جاء الرب منهم متجسدًا.
ويقول الأب هيبوليتس:[واضح جدًا أنه قصد بالمرأة المتسربلة بالشمس الكنيسة التي أمدها بكلمة الآب إذ بهاؤها يفوق الشمس[102].]
ويشير بقوله "القمر تحت رجليها" إلى كونها قد تجلت بمجد سماوي يفوق القمر. كما تشير العبارة "وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا" إلى الإثنى عشر رسولاً الذين أقاموا الكنيسة. وأما القول بأنه من أجل ابنها "تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد" فيعني أن الكنيسة لن تكف عن أن تحمل في قلبها "الكلمة" الذي يضطهده غير المؤمنين في العالم. هذه هي الكنيسة التي وصفها ربنا قائلاً: "من هي المشرقة مثل الصباح جميلة كالقمر. طاهرة كالشمس. مرهبة كجيش بألوية" (نش 6: 10).
هذه الكنيسة يقاومها إبليس، إذ يقول: "وظهرت آية أخرى في السماء، هوذا تنين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلى رؤوسه سبعة تيجان"
إنه منذ خلقة الإنسان ولا يكف إبليس "التنين" عن حسده له. هذا التنين العظيم "أحمر" وكما يقول الأسقف فيكتورينوس إن هذا اللون بسبب عمله، لأنه "كان قتَّالاً للناس من البدء" (يو 8: 44)، فهو لا يكف عن التخريب والتدمير بين البشرية محاولاً إهلاك أولاد الله. وله سبعة رؤوس، أي دائم التفكير في هذا القتال. وله عشرة قرون، أي يستخدم كل شدة قوته وسلطانه الممتد على الأرض لإفساد الإيمان. وعلى رؤوسه سبعة تيجان، إذ ينصب نفسه ملكًا في قلوب الأشرار مسيطرًا على أفكارهم ونيَّاتهم وحواسهم وتصرفاتهم ...
ويرى الأسقف فيكتورينوس أنه عندما يأتي ضد المسيح في أواخر الأزمنة سيخدع 10 ملوك (10 قرون) يستخدمهم في تحطيم الإيمان."وذنبه يجر ثُلث نجوم السماء،فطرحها إلى الأرض،والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد، حتى يبتلع ولدها متى ولدت"
يري البعض أن في هذا إشارة إلى أن ضد المسيح يخدع ثلث المؤمنين ويضللهم، لكن الأسقف فيكتورينوس يُرجح أن التفسير الأصوب هو أن الشيطان في سقوطه جذب إليه عددًا كبيرًا من الملائكة فسقطوا معه من السماء (يه 6). وفي هذا ينكشف لنا خطورته وتحفزه للإهلاك والإفساد.
ولم يقف عند إسقاطه لبعض الملائكة وتضليله للبشر، بل ظن أنه يُميت الرب يسوع، لكنه إذ هو ليس من زرع البشر لم يغلبه الموت، بل قام الرب من الأموات في اليوم الثالث، مقيمًا إيانا من قبر الخطية، مُصعدًا مؤمنيه إلى حيث هو قائم. لهذا يقول الرائي:
فولدت ابنًا ذكرًا عتيدًا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد،
واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه"
هذا الذي أراد إبليس افتراسه، هو راع يضم في حظيرته جميع الأمم، يسحق قوى الشر بعصا من حديد. وها هو في العرش الإلهي يرفع فيه البشرية الساقطة إلى الأعالي. هذا بالنسبة للسيد المسيح أما عن حال الكنيسة في غربتها فيقول الرائي:
"والمرأة هربت إلى البرية، حيث لها موضع معد من الله،
لكي يعولها هناك ألفًا ومئتين وستين يومًا"
إنها الكنيسة الهاربة دومًا من وجه إبليس لتعيش متقشفة في برية هذا العالم، تنتظر مسكنها الجديد، أورشليم السمائية، المعد لها من الله. ومدة الألف ومائتين وستين يومًا أي حوالي ثلاث سنين ونصف ترمز إلى كل أيام الغربة التي يقضيها المؤمنون على الأرض.
في كنيسة العهد القديم نجد إيليا هاربًا من وجه ايزابل ثلاث سنين ونصف. وفي كنيسة العهد الجديد نجد العذراء مريم مع ربنا يسوع يرافقهما يوسف النجار هاربين من وجه هيرودس الذي أثاره إبليس (وقد قيل أنهم بقوا ثلاث سنين ونصف). وفي فترة ضد المسيح أيضًا تعاني الكنيسة منه حوالي ثلاث سنين ونصف هاربة في البراري والجبال من شدة الضيق.
2. مساندة السماء للكنيسة
"وحدثت حرب في السماء:
ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته.ولم يقووا، فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء
يرى الأسقف فيكتورينوس أن هذه هي بداية فترة "ضد المسيح" إذ يحارب رئيس الملائكة ميخائيل إبليس، فيقوى عليه ويُسقطه من السماء حتى لا يشتكي ضد المؤمنين. وهنا يجدر بالمؤمنين أن يقفوا قليلاً يتأملون في محبة "رئيس جند الرب" الملاك الجليل الذي يحامي عن أولاد الله (دا 12: 1؛ 1 تس 4: 16؛ يه 9). إذ هو كملاك نوراني يشتهي أن نصير نورانيين، مقاتلاً عنا ملائكة الظلمة!
على أثر هذه الحرب يسقط إبليس محتضرًا لهذا يبث كل سمومه، باذلاً كل طاقاته للانتقام فيما تبقى له من وقت يسير لكي يُطرح في جهنم إلى الأبد. وبهذا تبدأ فترة ضد المسيح ويأتي الشاهدان.
"فطرح التنين العظيم الحيَّة القديمة المدعو إبليس،
والشيطان الذي يضل العالم كله طُرح إلى الأرض،
وطُرحت معه ملائكته"
يا لها من نصرة عظيمة أن يسقط إبليس من السماء لكي لا يشتكي علينا، لكنه في اللحظات الأخيرة له لا يكف عن التضليل وهو يُدعى:
1. التنين العظيم، أي ضخمًا قاسيًا مرعبًا.
2. الحية القديمة، له خبرة طويلة في الخداع، وعداوته لنا منذ وجدت البشرية (تك 3: 2، 15).
3. إبليس أي "المفتري ظلمًا"، إذ يفتري على الكنيسة دومًا.
4. الشيطان، أي المُعاند.
5. "الذي يضل العالم كله"... وهذه هي طبيعة عمله.
إذ سقط العدو في أنفاسه الأخيرة يقول الرسول:
"وسمعت صوتًا عظيمًا ً في السماء:الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه،لأنه قد طُرح المشتكي على إخوتنا،الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارًا وليلاٌ.وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم،
ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.من أجل ذلك افرحي أيتها السماوات والساكنون فيها.ويل لساكني الأرض والبحر،لأن إبليس نزل إليكم،وبه غضب عظيم، عالمًا أن له زمانًا قليلاً" [10-12].
لقد تكشف للسمائيون ضعف إبليس وظهرت هزيمته عندما أُلقيَ من السماء (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لقد ابتهجوا باقتراب إعلان نصرة الإنسان في يوم الدينونة المجيد، وذلك بالدم الثمين. وفي بهجتهم وحبهم للبشر دعوا الكنيسة التي لا تزال في الأرض مجاهدة "إخوتهم"، إذ سيصيرون مثلهم تقريبًا كملائكة الله.
لقد امتزجت مشاعر الترنيم والفرح بالإشفاق من أجل ما ستعانيه الكنيسة من إبليس بنزوله إليها لمحاربتها في شخص ضد المسيح وأتباعه. لكن لتترنم السماء، وليفرح أيضًا الذين في الفردوس، ولتستعد الأبدية للعرس الأبدي، لأنه قد اقتربت الساعة للغاية وبقي زمان قليل!
3. اشتداد المقاومة
"ولما رأي التنين أنه طرح إلى الأرض، اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر.فأُعطيت المرأة جناحي النسر العظيم، لكي تطير إلى البرية إلى موضعها، حيث تُعال زمانًا وزمانين ونصف زمان من وجه الحيَّة" [13-14].
إذ يشن التنين هجومًا شيطانيًا ضد الكنيسة، يهب الله لها "جناحيّ نسر"، فتكون كالنسر هاربة من ضد المسيح لا في خزي وعار بل بقوة هائمة في البرية بعيدًا عن أدناسه. وكما يقول النبي: "وأما منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون" (إش 40: 31).
ويرى الأسقف فيكتورينوس أن جناحي النسر هما النبيان اللذان ينذران المؤمنين بالذهاب إلى البراري. ويرى الأب هيبوليتس أنهما الإيمان بالسيد المسيح، الذي يشبه نفسه بالدجاجة التي تجمع أولادها تحت جناحيها.
ويتأمل كثيرون في هذين الجناحين ليروهما لازمين في كل عصر، وفي حياة كل مؤمن، لكي يطير هائمًا في السماويات بعيدًا عن شهوات العالم. فمنهم من نادى أنهما الإيمان والأعمال، أو محبة السماويات والاستهانة بالأرضيات، أو محبة الله ومحبة القريب، أو الرغبة في مجد الله والرغبة في خلاص الناس.
على أي الأحوال لننتفع بهذين الجناحين ولنصعد بربنا يسوع لنجلس معه في السماويات. لكن الحيَّة القديمة لن تتوقف عن الزحف وراءنا ومقاومتنا:
"فألقت الحيَّة من فمها وراء المرأة كنهر، لتجعلها تُحمل بالنهر" [15].
يرى الأسقف فيكتوريانوس أن هذا الماء[يشير إلى الجموع التي يسيطر عليها ضد المسيح وتضطهد الكنيسة.]
ويبدو أن المقاومة ستكون في منتهى الشدة، فإذا طبقنا ما جاء في دانيال النبي (11: 31-35) على هذه الفترة، فإننا نعلم أن ضد المسيح يدخل إلى الكنائس ويُدنس الهياكل ويفسد ويُخرب ولا تُقدم الذبيحة، ويستخدم كل وسائل التملق لإغواء المؤمنين، حتى أن بعض الفاهمين يتعثرون. لكن الله لا يترك أولاده هكذا يهلكون، بل "أما الشعب الذين يعرفون إلههم فيقْوون ويعملون والفاهمون من الشعب يعلمون كثيرين" (دا 11: 32- 33).
يقول الرائي: "فأعانت الأرض المرأة، وفتحت الأرض فمها، وابتلعت النهر الذي ألقاه التنين من فمه. فغضب التنين على المرأة، وذهب ليصنع حربًا مع باقي نسلها، الذين يحفظون وصايا الله، وعندهم شهادة يسوع المسيح" [16-17].
ولعل الإعانة تكون بإثارة الحرب بين بعض الممالك مما يفسد قوة ضد المسيح ويهز كيانه (راجع تفسير رؤ 9).
إن المرأة الملتحفة بالشمس، التي تظهر في السماء، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً والقمر تحت قدميها، تلك المرأة التي تصرخ من ألم المُخاض، بحسب التفسير الدقيق هي أمّنا - بصفتها قدرة في حد ذاتها مميزة عن أبنائها - تلك التي سماها الأنبياء في الرؤيا التي رأوها عن الأزمنة الآتية تارة أورشليم، وتارة العروس، وتارة جبل صهيون، وتارة هيكل وخيمة الله، فهي القدرة التي تعطي الإستنارة بحسب قول النبي إشعيا، حين هتف الروح القدس بصوته: "قومي إستنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليكِ، لأنه ها هي الظلمة تُغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يُرى. فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك. إرفعي عينيك حواليك وأنظري قد اجتمعوا كلهم، جاءوا إليك. يأتي بنوكِ من بعيد وتُحمل بناتك على الأيدي" (إش 60).
إنها الكنيسة التي يأتي إليها أبنائها بكل سرعة، ويسرعون إليها من جميع الأطراف بعد القيامة. إنها تبتهج بإستقبالها النور الذي لا يتضاءل، وتتغطى بسطوع الكلمة (اللوغوس) وكأنه رداء يلفها، فأي زينة أخرى أكثر عظمة وكرامة من اللائق أن تُزين بها الملكة لكي تُزفَّ كعروس إلى الرب، إذ أنها قد تقبلت كساء النور، ودُعيت من قِبل الآب.
لنتأمل هذه المرأة الرائعة، المزينة زينة العذارى للعرس، فإن جمالها الظاهر الذي لا شائبة فيه يُشعّ كاملاً وثابتاً، وليس هناك أنوار لا تضاهيها سطوعها، لأن النور نفسه هو الذي يرتديها كالجلباب، وبمثابة حجارة كريمة فإن النجوم المتلألئة هي التي تحملها جبهتها على سبيل الزينة. وما هو رداء لنا، فإن النور هو رداء لها. وما هو لنا الذهب والحجارة الساطعة، فإن النجوم هي لها، لكن هذه النجوم ليست كالنجوم المزروعة في الفضاء السماوي، بل هي أسطع وأكثر تألقاً، حتى إن نجومنا ليست سوى صور ونُسَخ.
وعبارة "القمر تحت رجليها" ترمز إلى إيمان المطهَّرين من الفساد بتجديد المعمودية، لأن ضوء القمر يبدو أنه يغمرنا كالماء الفاتر، وأن كل ما هو رطب يتعلق بالقمر. فالكنيسة إذن ترتكز – برمز القمر - على إيماننا وفعل التبني، إلى أن يدخل ملؤ الأمم (رو 11)، فهي إمرأة في مخاض تحمل الناس الطبيعيين وتلدهم كأناس روحيين، وهي في ذلك أمّ بلا شك. وكما أن المرأة حين تحصل على الزرع الذكري، من دون أن يكون له شكل، تلد، بعد انقضاء الوقت، كائناً بشرياً كاملاً، هكذا أيضاً الكنيسة لا تنقطع عن الحبل في أحشائها، بالذين يلتجأون إلى الكلمة (اللوغوس)، وتكوّنهم وتصوغهم على صورة المسيح ومثاله، لتجعل منهم، بعد انقضاء الأيام، مواطنين لتلك الأبديات الطوباوية. لذلك من واجبها أن تُشرف على غسل المعمودية، بصفتها أم الذين اغتسلوا فيها. وهكذا تسمى الوظيفة التي تقوم بها في هذا الغسل "قمراً"، لأن الذين يُجددون فيها ويولدون ثانية يضيئون بضوء حديث أي بضوء جديد. وهذا ما يجعلهم يسمون أيضاً "المستنيرين الجدد".
قد يعترض البعض على تلك الأقوال ويسأل: "كيف يكون هذا الشرح موافقاً لفكر الكتاب المقدس، إذ أن سفر الرؤيا يوضح أن الكنيسة تلد ولداً ذكراً، بينما الشرح نسب الحمل والمخاض إلى أولئك الذين يغتسلون بالمعمودية؟ سنجيب إذاً: هيا أيها الممحاك، لأنك أنت أيضاً لا تقدر أن تثبت أن الولد هو المسيح نفسه، لأن سر تجسد الكلمة قد تمَّ قبل سفر الرؤيا بكثير، وإن أقوال يوحنا تعني الحاضر والمستقبل. هذا وإنّ المسيح - حين حبل به منذ عهد بعيد - لم يُخطف من ساعة الولادة إلى عرش الله خوفاً من إصابات الحيَّة. بل لهذا ولد، ونزل بذاته من عرش الآب، لكي يمكث ويصرع التنين الذي إعتدى على الجسد. فأنت مرغم على التسليم بأن الكنيسة هي التي تحبل وتشتاق إلى ولد، وبأنها تلد المُفتدين، كما ورد على لسان الروح القدس في فقرة من سفر إشعيا: "قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكراً. من سمع مثل هذا؟ من رأى مثل هذه؟ هل تمخض بلاد في يوم واحد؟ أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد مخضت صهيون بل ولدت بنيها" (إش 66). مِمَّن أفلتت، صهيون الروحية، إن لم يكن حتماً من التنين، لتلد شعب الرجولة، القادر على التخلي عن الأهواء المخنثة، وعن الإنحلال، ولتذهب نحو وحدة الله وتتخذ طبع الرجال عن طريق الورع.
فالكنيسة هنا تلد الولد الذكر، وذلك لأن المستنيرين ينالون حقاً ختم يسوع وصفاته الرجولية، فإن شبه الكلمة مطبوع فيهم، ويولد فيهم بواسطة المعرفة الحقيقية والإيمان الحقيقي، ولذلك في كل واحد منهم تتم ولادة المسيح بشكل روحي. هكذا تتمخض الكنيسة حتى يتصور المسيح فينا (غل 4)، لكي يولد كل واحد من القديسين بصفته مسيحاً، باشتراكه في المسيح، بحسب ما ورد في فقرة من الكتاب المقدس: "لا تمسُّوا مُسحائي ولا تُسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105)، وهذا يعني أن أولئك الذين أعتمدوا في المسيح أصبحوا مسحاء بشركة الروح القدس، والكنيسة هنا تساهم في استنارتهم وتحويلهم إلى صورة الكلمة (اللوغوس). هذا وأن تعليم بولس الرسول يؤيد ذلك بوضوح: "بسبب هذا احني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة في السموات وعلى الأرض، لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف 3). إذ أنه من الضروري، أن يرسم كلمة الحق في النفوس التي تعيش ولادة جديدة سمته وإشارته.
أما التنين العظيم الأحمر، ذلك الوحش المراوغ والمتنوع الوجوه إلى أبعد حد، برؤوسه السبعة وقرونه، وكاسح ثلث الكواكب، والمترصد ليبتلع ولد المرأة التي توشك أن تلد، هو إبليس الذي ينصب فخاخه لينال من المعمدين الذين نالوا النور، ويفتك بصورة المسيح وصفاته الواضحة فيهم، تلك العلامة وتلك الإستنارة اللتين ولدهما الكلمة فيهم. لكنه أخفق وفاتته الغنيمة، لأن المولودين جديداً خُطفوا إلى الأعالي بالقرب من عرش الله، وهذا يعني أن فكر النفوس المجدَّدة رُفع عالياً، حول الكرسي الإلهي وقاعدة الحق التي لا تُزعزع: فإن ذلك الفكر يتعلم أن ينظر إلى أمور العلي وأن يتصورها، لكيلا ينقاد لخداع التنين الذي يضغط ليجذبها نحو الأسفل، لأنه لا يحق له أن يلاشي الذين يرفعون رؤوسهم وأنظارهم إلى السماء. أما الكواكب التي يسلبها بطرف ذنبه ويُلقيها إلى الأرض فهي زمرات الهراطقة.
فالتي ولدت ولا تزال تولّد في قلوب المؤمنين الكلمة المذكَّر، والتي وصلت إلى البرية من دون أن يُنزل بها حنقُ الوحش شائبة وضرراً، هي أمَّنا الكنيسة. والبرّية التي ذهبت إليها، حيث حصلت على القوت مدّة 1260 يوماً، هي حقاً البرية التي لا ينبت فيها أي شر، القاحلة من كل جرثومة فساد، والتي هي منطقة صعبة المنال للجميع، ولكن القديسين يجدون فيها ثماراً رائعة وخليطاً رائعاً ونباتاً رائعاً وطرقاً رائعة، وهي تفيض بالحكمة، وتتفتح فيها الحياة. إنها حقاً منطقة الفضيلة، بما فيها من سحر الأشجار ومن سحر النسيم. هنا تستيقظ ريح الشمال وتهب ريح الجنوب فتقطر أطيابها (نش 4).
الرؤيا 12 - تفسير سفر الرؤيا
نرى هنا صورة للعداء الدائم بين إبليس وبين الكنيسة، والحرب التى يثيرها دائما ضد الكنيسة. ولكنه عدو مهزوم ساقط مطرود من السماء بينما أن الكنيسة سمائية.
هنا نرى الكنيسة مشبهة بإمرأة فهى عروس المسيح. وفى إصحاح 17 نرى إمرأة أخرى أسماها الزانية العظيمة وهذه عروس الشيطان إذاً نحن أمام صورتين فى سفر الرؤيا:-
الأولى:- هى الكنيسة كعروس وعريسها المسيح (رؤ1:12 + رؤ2:21).
الثانية:- هى بابل الزانية العظيمة وعريسها الشيطان (رؤ1:17-7).
آية 1 "و ظهرت اية عظيمة في السماء امراة متسربلة بالشمس و القمر تحت رجليها و على راسها اكليل من اثني عشر كوكبا".
إمرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها = هذه الصورة تذكرنا بسفر نشيد الأناشيد، الذى هو حوار بين العريس (المسيح) والعروس (الكنيسة) وفيه يصف العريس عروسه بأنها "جميلة كالقمر طاهرة كالشمس" وهى جميلة لأنها كالقمر، والقمر يعكس نور الشمس، والشمس إشارة للمسيح شمس البر. فكما هو نور للعالم (يو12:8) فهى نور للعالم (مت14:5) هى تستمد جمالها منه، بل هى تعكس جماله. هو سر جمالها. وهى طاهرة كالشمس لأنها متسربلة بالشمس. لا يظهر عريها ولا خطاياها، فهى طالما فى عريسها المسيح لا يظهر منها سواه "قد صالحكم الآن فى جسم بشريته بالموت ليحضركم قديسيين وبلا لوم ولا شكوى أمامه" (كو22،21:1) لقد لبست المسيح (رو14:13).
آية عظيمة فى السماء = فهذه العروس سماوية
1. تصلى أبانا الذى فى السموات إذاً أباها سماوى.
2. سيرتها فى السماوات (فى 20:3). سيرتها اي انها مواطنتها سماوية.
3. عريسها أقامها معه وأجلسها معه فى السماويات (أف6:2). وهى آية، فكيف تكون وهى أرضية. وتحيا فى نفس الوقت فى السماويات. هذا لأن عريسها فى وسطها "ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" (مت20:28) وبحسب وعده "لأنه حيثما إجتمع إثنان أو ثلاثة بإسمى فهناك أكون فى وسطهم" وهذا معنى"طأطأ السموات ونزل" (مز 18: 9 )
والإمرأة هى الكنيسة. وهناك من قال أنها العذراء ولا خلاف بين الرأيين، فالعذراء هى أم المسيح، وجسد المسيح هو كنيسته. والكنيسة ليست هى كنيسة العهد الجديد فقط، بل هى كنيسة العهد القديم والعهد الجديد. والمسيح أتى ليجعل الإثنين واحدا (أف14:2). وعلينا أن نفهم أنه ليس هناك دين يهودى ودين مسيحى، فالدين المسيحى هو إمتداد وتكميل للدين اليهودى والمسيح " ما أتى لينقض بل ليكمل " وكنيسة العهد الجديد هى إمتداد لكنيسة العهد القديم. هما جسد واحد بلا إنفصال. المدخل لهذا الجسد هو رقم 12
12= 3 [ (1) المؤمنين بالله مثلث الأقانيم ] × 4 (كل العالم)
[ (2) الذين يعمل فيهم الروح القدس الأقنوم الثالث ] هو رقم يشير للعمومية
[ (3) الذين لهم قيامة من موت الخطية ] ويشير لكل العالم.
ولذلك نلاحظ أن كنيسة العهد القديم مؤسسة على 12 سبطا. وكنيسة العهد الجديد مؤسسة على 12 تلميذا. وكلاهما جسد واحد تمثله هذه المرأة.
إذا كنيسة العهد الجديد هى إمتداد لكنيسة العهد القديم، ولكن من رفض الإيمان بالمسيح من اليهود خرج من الكنيسة ولم يعد يحسب من شعب الله.
ولاحظ أن الكنيسة مكانها فى السماء، تعيش غريبة على الأرض. والأرض أو العالم شبه بالبحر، فمياهه (ملذاته) مالحة تصيب كل من يشرب منها بالعطش، وأمواج البحر تشبه العالم فى أنه يرفع الإنسان يوما ويخفضه يوما. والعالم مشبه بالبحر، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش فى البحر، بل هو سيموت.
متسربلة بالشمس = المسيح هو شمس البر (ملا2:4). وبولس الرسول يقول إلبسوا المسيح (رو14:13). إذا الكنيسة لها صورة عريسها أى صورة المسيح.
والقمر تحت رجليها = القمر إشارة للقديسيين، فالقمر يعكس نور الشمس، ويستمد ضياؤه من الشمس، وهكذا القديسين هم نور للعالم إذ يعكسون نور المسيح الذى فيهم. وكونهم تحت قدميها فهذا يشير لموت القديسين سواء بإستشهاد أو موت طبيعى فالموت موضوع لكل إنسان (عب27:9).
على رأسها إكليل من إثنى عشر كوكبا = هم المؤمنين بالله فى كل الأزمنة، وهم تاج جهاد الكنيسة دائما، هم يضيئون جبين الكنيسة وينشروا نورها فى كل العالم بإيمانهم وقداستهم. وقد يكونوا هم الأسباط أو تلاميذ السيد المسيح (12) ويمكننا فهم الصورة السابقة تاريخيا. فكون المرأة تلد إبنا ذكرا كما سيأتى فى آية 5. فالإبن الذكر هو المسيح، وتكون المرأة هنا هى كنيسة العهد القديم (الشعب اليهودى). وبعد أن تلد الإبن الذكر لا يعود هناك يهودى وأممى، بل الكل كنيسة واحدة هى القمر. وكون القمر تحت رجلى المرأة فهذا يعنى أنه بعد أن أدت كنيسة العهد القديم دورها وولد منها المسيح جاءت الكنيسة، بمعنى أن الكنيسة تاريخيا تأتى بعد الشعب اليهودى، وهذا تم التعبير عنه بأنها تحت رجلى المرأة.
آية2 "و هي حبلى تصرخ متمخضة و متوجعة لتلد".
وهى حبلى = الكنيسة أم ولود، ولكن ولادتها لأبنائها تكون بصعوبة = تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد = هكذا قال بولس الرسول "يا أولادى الذين أتمخض بكم إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غل19:4). وبالنسبة لكنيسة العهد القديم فقد كانت تصرخ لتلد المسيح قائلة ليتك تشق السموات وتنزل (أش1:64) والمسيح أتى فعلا منهم وبالذات من سبط يهوذا. واليهود كانوا فعلا متلهفين لمجىء هذا المخلص الذى وُعِدوا به زمنا طويلا، بل حتى السامريين كانوا ينتظرونه كما قالت السامرية للسيد "أنا أعلم أن مسيا الذى يقال له المسيح يأتى" (يو25:1).
آية 3 "و ظهرت اية اخرى في السماء هوذا تنين عظيم احمر له سبعة رؤوس و عشرة قرون و على رؤوسه سبعة تيجان".
آية آخرى فى السماء = فالشيطان أصله من السماء وسقط (أش12:14-15) + (مز11:28-17) هوذا تنين = إشارة لقوته الهائلة وقوته.
أحمر = فالسيد المسيح قال عنه كان قتالا للناس من البدء يو 44:8. وكان السبب بخداعه لأبوينا الأوليين آدم وحواء فى هلاك البشر. لذلك ففى نفس الآية يو 44:8 التى يقول فيها السيد عن الشيطان أنه كان قتالا للناس من البدء، يضيف أنه كذاب وأبو الكذاب وأنه ليس فيه حق، فبخداعه أهلك البشر. ولكم أثار أيضا إضطهادات دموية ضد المؤمنين سال فيها دم كثير.
وهو لا يكف عن التخريب والتدمير محاولا إهلاك أولاد الله. فالرأس إشارة للفكر.
له سبعة رؤوس = رقم 7 هو رقم الكمال والمعنى أنه دائم التفكير فى القتال. وقد تشير الرؤوس السبعة للسبعة الممالك التى يعمل فيهم إبليس ليضطهدوا شعب الله كما سيأتى ذكره فى إصحاح 17، وما يؤيد هذا أن على رؤوسه سبعة تيجان = فهو يتحكم فى ملوك هذه الدول ليثيروا إضطهادا ضد شعب الله. وكون ان له 7 تيجان ففى هذا إشارة إلى أنه ينصب نفسه ملكا فى قلوب الأشرار، ويسيطر على أفكارهم وتصرفاتهم.
وعشرة قرون = القرن رمز للقوة، فهو يستخدم كل شدة قوته ضد شعب الله لإفساد الإيمان. وقد تعنى العشرة قرون 10 ملوك يساندون الوحش عند ظهوره لتحطيم الإيمان. وقد يفهم رقم 10 على أن عمل الشيطان دائما هو الحث على كسر الوصايا العشر.
آية 4 "و ذنبه يجر ثلث نجوم السماء فطرحها الى الارض و التنين وقف امام المراة العتيدة ان تلد حتى يبتلع ولدها متى ولدت".
نجوم السماء = نفهم من هذا أن الشيطان، الملاك الساقط جذب معه ثلث الملائكة فصاروا شياطين (يه 6). وربما تشير لنجاحه فى إسقاط عدد كبير من المؤمنين. فطرحها إلى الأرض = لم يعودوا بعد فى السماء، وصار مجال عملهم الأرض. وهو حاول أن يبتلع المسيح الذى سيولد، إبتداء من إثارته لهيرودس ليقتل المسيح الطفل فقتل أطفال بيت لحم وحتى محاولته أن يمسك نفسه عند موته على الصليب كما تعود أن يمسك كل نفوس بنى آدم ليأخذهم عند موتهم إلى الجحيم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لكن المسيح الذى بلا خطية إنتصر عليه وأمسكه، وذلك شرحه السيد المسيح حينما قال " رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء (يو30:14). فالمسيح لم يقبل من يده أى خطية. ولذلك قام المسيح من الموت منتصرا على الموت وعلى إبليس. ونرى فى الآية الآتية صعود المسيح بجسده للسماء ليعد لنا مكانا.
آية 5 "فولدت ابنا ذكرا عتيدا ان يرعى جميع الامم بعصا من حديد و اختطف ولدها الى الله و الى عرشه".
فولدت إبنا ذكرا = هو المسيح وهو ذكر لأنه عريس الكنيسة. عتيدا = مزمعا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد = رمز العدل والقوة والإقتدار، وهذا ما قيل فى (مزمور 9،8:2) عن المسيح الذى أراد إبليس إفتراسه، والمسيح هو الراعى الذى يضم إلى حظيرته جميع الأمم، ويسحق قوى الشر بعصا من حديد.
وإختطف ولدها إلى الله = هذا إشارة لصعود المسيح بالجسد للسماء ليرفع البشرية الساقطة للأعالى. وقوله إختطف إشارة لأن لاهوته المتحد بناسوته هو الذى رفع الناسوت للسماء.
آية 6 "و المراة هربت الى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولها هناك الفا و مئتين و ستين يوما".
المرأة هربت إلى البرية = هى الكنيسة التى تعيش فى العالم كأنه برية، حاسبة إياه أنه برية، غير مهتمة بملذاته، بعيدا عن ضجيج العالم، شاعرة بغربة فى هذا العالم، كما نصلى فى القداس قائلين "ونحن الغرباء فى هذا العالم". وهذه الكنيسة التى تحيا فى العالم حاسبة أنه خراب بالنسبة لها (شرور العالم) يلاطفها الله قائلا "لكن هأنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها" (هو14:2).
حيث لها موضع معد من الله = فالله يعد لكل منا مكانا يعيش فيه وله عمل يشهد به لله. لكى يعولها = روحيا وماديا بل ورعاية كاملة، كما عال بنى إسرائيل بالمن فى سيناء وإحدى صور الهروب هى صورة هروب الرب يسوع مع أمه العذراء إلى ارض مصر. وقيل أنهم أقاموا فى مصر ثلاث سنوات ونصف. فمن يريد أن يهرب من التنين يذهب إلى البرية.
الف ومئتين وستين يوما = أى 3.5 سنة. وهذا الرقم يعنى أنه وضع مؤقت لأن الهروب للبرية هو وضع مؤقت غير دائم، فالكنيسة ستحيا فى صراع لكن ليس على الدوام، بل ستأتى النصرة فى النهاية... وكأن المسيح مازال يردد "أما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة" (مت40:26). ونلاحظ أن الـ1260 يوما هى مدة سيطرة ضد المسيح أو مدة حكمه (رؤ2:11) لذلك قد تفهم هذه الآية أن الكنيسة ستهرب من وجه ضد المسيح فعلا إلى الجبال والبرارى من شدة الضيق وهناك يعولها الله. ولكن هذا لن يتضح الآن وإنما سيعلن فى وقته، ووقتها سنفهم ما علينا عمله، بل سنكتشف من كلمات سفر الرؤيا التى سيتضح معناها وقتها فهى مكتوبة الآن بصورة شفرية، وستنحل الشفرة وقتها وسنفهم إلى أين نهرب. وهناك فى البرية سيعولوها = لأن فى وقت الضيقة العظيمة الله سيعول كنيسته (بواسطة ملائكته) بطريقة ما. ولاحظ كما سنرى فى إصحاح (13) أن أولاد الله لن تكون لهم سمة الوحش التى بها يبيعون ويشترون، فهم سيكونون غير قادرين على أن يحيوا وسط المجتمع. فلابد أن يجد الله طريقة بها يعول شعبه فى البرية كما كان يعول القديس الأنبا بولا بواسطة غراب، فالله لابد أنه سيحفظ كنيسته وسط هذه الضيقة العظيمة. إذاً الآية تفهم بطريقتين:-
1. الـ3.5 سنة هى مدة رمزية تشير لكل أيام غربة الكنيسة على الأرض.
2. وتفهم حرفيا أنها مدة فعلية تهرب فيها الكنيسة للبرارى أيام ضد المسيح.
آيات 8،7 "و حدثت حرب في السماء ميخائيل و ملائكته حاربوا التنين و حارب التنين و ملائكته. و لم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء".
قبل أن يبدأ الصراع بين الشيطان والكنيسة أى أبناء الله، دار صراع قديما قبل خلقة الإنسان بين الشيطان وبين الله نفسه وإشترك الملائكة فى هذا الصراع. وما صراع الشيطان مع الكنيسة الآن إلا إمتداد لذلك الصراع القديم. وهذا الصراع لن ينتهى سوى بإلقاء الشيطان فى البحيرة المتقدة بالنار فى نهاية الزمان (رؤ10:20) والشيطان كان ملاكا سماويا من طغمة الكاروبيم، ولكنه نسب جماله وقوته ونوره إلى نفسه وقال أصير مثل العلى (أش14:14). فهو تصور أنه يمكنه أن ينير من نفسه، وذلك بالإنفصال عن الله، ولكن الملاك ميخائيل قاومه قائلا من مثل الله = مى كا ئيل ومن هنا أخذ إسمه ميخائيل الذى يعنى من مثل الله.
ولما إرتفع الشيطان فى قلبه وتكبر وقاوم الله وحاول أن يتساوى مع الله إنقطع تيار النور من حياته فإظلم كله وحصل على لقب سلطان الظلمة وإستحالت توبته وإستمرت ظلمته. وهناك فرق بين سقوط الإنسان وسقوط الشيطان. فالملائكة عموما مسئولين عن تصرفاتهم مسئولية كاملة وهم لا يترددوا فى قرار يتخذونه. وهذا تم التعبير عنه فى سفر حزقيال هكذا "أرجلها أرجل قائمة وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل.. لم تدر عند سيرها" (حز9،7:1) والشيطان هو ملاك ساقط له هذه المواصفات نفسها فهو لا يتردد فى قرار يتخذه، فلما إتخذ قراره بالإنفصال عن الله لم يتردد ولم يندم ولن يقدم توبة مهما حدث، أما الإنسان فنجد كثيرين بعد أن يسقطوا يبكون ويندمون. أضف لهذا أن الشيطان بعد سقوطه هو الذى أغوى الإنسان على السقوط، أما الشيطان نفسه فلم يغوه أحد.
بل بعد السقوط إستمر الشيطان فى غواية الإنسان لإسقاطه ثم الشكاية ضده (أى9:1) وهو لم يكتفى بمضايقة الإنسان بل ضايق الملائكة أنفسهم (دا13:10). وكان يقبض على أرواح الأشرار والأبرار قبل المسيح ويلقيهم فى الجحيم. وحاول إستعمال نفس الأسلوب مع المسيح على الصليب إلا أن المسيح هزمه بقداسته المطلقة فى حياته إذ لم يقبل من يده أى خطية وقال "من منكم يبكتنى على خطية" لذلك إستطاع أن يقول "رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء". بل أن المسيح بموته هزم الشيطان تماما لذلك قال المسيح قبل ذلك "رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء". وكل من هو ثابت فى المسيح الآن يستطيع أن يقول "رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء" لذلك يقول المسيح "إثبتوا فى وأنا فيكم". وواضح طبعا أن سبب تردد الإنسان وضعفه هو جسده أما الشيطان فهو روح بلا جسد فهو غير قابل للندم.
إذا صراع الشيطان ليس قاصرا على العالم المادى بل هو صراع روحى قديم مكانه السماء. والشيطان سقط أولا حين قال "أصير مثل العلى" فأسقطه الله من مكانته وإرتفع ميخائيل الذى قال من مثل الله (راجع آية 4:13).
وبسقوط الشيطان لم يوجد مكانهم بعد ذلك فى السماء = أى لم يوجد فى دائرة الخضوع الإلهى. ولم يعد يحيا فى السماء بنورها وفرحها ومجدها، بل صار ظلمة وفقد نوره وفرحته بالحضور الإلهى. ولكن الله فى سماحته كان يسمح له بأن يوجد وسط بنى الله أى الملائكة. ولكنه كان متى وجد أمام الله يشتكى ضد أولاد الله كما سمعنا فى قصة أيوب.
ثم سقط ثانيا فى معركة الصليب، بل أعطى للمؤمنين أن يدوسوه (لو19،18:10) + (رو20:16). وبعد معركة الصليب تم تقييد الشيطان. وسيكون تقييده لمدة ألف سنة رمزية (رؤ1:20-3).
ونلاحظ أن بعد سقوطه من السماء حاول بكل طاقاته أن يبث سمومه لإفساد البشر، ولكن بعد تقييده فقد سلطانه، إلا أن الله سيطلقه فى نهاية الأيام، وعند ذلك سيطلق كل طاقاته للإنتقام فيما تبقى له من وقت ليجذب معه للجحيم أكبر عدد ممكن. وسيكون هذا بأن الشيطان يضع كل قوته فيمن يسمى الوحش.
آية 9 "فطرح التنين العظيم الحية القديمة المدعو ابليس و الشيطان الذي يضل العالم كله طرح الى الارض و طرحت معه ملائكته".
التنين = نظرا لقوته الهائلة وقسوته فالتنين ضخم ومرعب
الحية القديمة = له خبرة طويلة فى الخداع بمكر وخبث وفى عداوة للبشر.
إبليس = المفترى ظلما.
الشيطان = المعاند.
آية 10 "و سمعت صوتا عظيما قائلا في السماء الان صار خلاص الهنا و قدرته و ملكه و سلطان مسيحه لانه قد طرح المشتكي على اخوتنا الذي كان يشتكي عليهم امام الهنا نهارا و ليلا".
الآن بعد الصليب تكشف للسمائيين ضعف إبليس. وسمعت صوتا عظيما = تعبيرا عن صوت تسابيح السمائيين لعظم أفراحهم بسقوط الشيطان. صار خلاص إلهنا = بالدم الثمين سيخلص البشر. إخوتنا = الملائكة قيل عنهم بنى العلى ونحن البشر صرنا بالفداء أبناء الله، وبذلك صرنا إخوة للملائكة. الذى كان يشتكى = فهو كان يضل ثم يشتكى.
آية 11 "و هم غلبوه بدم الخروف و بكلمة شهادتهم و لم يحبوا حياتهم حتى الموت".
لم يحبوا حياتهم حتى الموت = هم آثروا الموت على الحياة محبة فى المسيح.
وهذه هى أنشودة بولس الرسول (رو35:8-39)، ورأينا الشهداء الذين لم يحبوا حياتهم حتى الموت بالملايين عبر تاريخ الكنيسة. وهذا هو أعظم إنتصار على إبليس، فإبليس سلاحه هو محبة العالم وملذاته. أما من أحب حياة الأرض فسيهلك "فويل لساكنى الأرض" آية 12 فإبليس سيدمر الأرض (إصحاح 18).
وبكلمة شهادتهم = أى يشهدوا للمسيح فى حياتهم، أى مسيحيين قلبا وقالبا.
آية 12 "من اجل هذا افرحي ايتها السماوات و الساكنون فيها ويل لساكني الارض و البحر لان ابليس نزل اليكم و به غضب عظيم عالما ان له زمانا قليلا".
من اجل هذا إفرحى = الفرح بالخلاص الذى تم، والفرح لأن الأيام قد إقتربت، ووصولنا للسماء صار قريبا. ولاحظ فرح السمائيين بأننا نحن الأرضيين سنصير معهم فى السماء،حقا لقد صرنا كنيسة واحدة، وهذا ما عمله المسيح بفدائه، لقد جمع فيه كل شىء، ما فى السموات وما على الأرض (أف10:1). وبهذا نفهم قول السيد المسيح. "يصير فرح فى السماء بخاطىء واحد يتوب" ونفهم لماذا حملت الملائكة نفس لعازر المسكين حين مات، فهم فرحون بوصوله للسماء... ولكن ويل لساكنى الأرض = فالشيطان لن يكف عن صراعه مع الكنيسة المجاهدة التى على الأرض، وعلينا أن نفهم أننا لابد وسنجتاز هذا الصراع. ولكن لنفهم أن الذى يحارب فعلا هو المسيح، هو يحارب فينا، وما نحن سوى فرس أبيض، ما علينا سوى الإلتصاق به والثبات فيه. فكل ما هو مطلوب من الفرس أن يظل ملتصقا بالفارس. لذلك يقول السيد المسيح "إثبتوا فى وأنا فيكم". وبهذا مع الآلام التى سنراها لابد وسننتصر لأن المسيح قال ثقوا أنا قد غلبت العالم (يو33:16). وذروة هذه الألام التى ستعانى منها الكنيسة ستكون فى ايام ضد المسيح.
آية 13 "و لما راى التنين انه طرح الى الارض اضطهد المراة التي ولدت الابن الذكر".
هنا نرى التنين يشن هجوما شيطانيا ضد الكنيسة. والمسيح هو الإبن الذكر.
آية 14 "فاعطيت المراة جناحي النسر العظيم لكي تطير الى البرية الى موضعها حيث تعال زمانا و زمانين و نصف زمان من وجه الحية".
النسر العظيم = راجع (خر4،3:19) + (تث12،11:32) لترى أن النسر العظيم هو الله الذى حمل شعبه من مصر إلى برية سيناء. والنسر من عاداته أنه يضع أفراخه على جناحيه ويطير بهم عاليا ثم يتركهم ليسقطوا فيتعلموا الطيران، ولكنهم إذا تعبوا يستقروا على جناحى وجسم الآب الطائر تحتهم ليحميهم ولا يتركهم يسقطون. وهكذا فى حربنا مع إبليس قد يتظاهر الله بأنه تركنا ولكن ذلك حتى نتعلم وسائل وفنون الحرب ضد ابليس، لكن الله دائما هو هناك، عينه علينا دائما ويعطينا جناحيه ليسندنا ويرفعنا للسماء عاليا، ويظلل علينا وقت التجارب. والله يجدد كالنسر شباب أولاده (أش31:40). والمؤمن بالمسيح يعلمه المسيح محبة السماويات والإستهانة بالأرضيات، ويعلمه الهروب للبرية، أى يحيا غريبا على الأرض زاهدا فيها متلذذا بالسماويات. ومرة ثانية وثالثة نسمع عن الزمان والزمانين والنصف زمان أى (3.5) بمعنى أن هذا الوضع هو وضع مؤقت علينا إحتماله بصبر. وربما هو أيضا إشارة لفترة الـ1260 يوما التى ستهرب فيها الكنيسة إلى البرية من وحشية ضد المسيح. فنحن الآن ومنذ صعود المسيح نعيش فى غربة برية هذا العالم، نحارب الشيطان بتقشفنا وزهدنا فى ملذات هذا العالم، ثم فى نهاية الأيام قد نهرب فعلا إلى مكان يعده لنا الله.
آية 15 "فالقت الحية من فمها وراء المراة ماء كنهر لتجعلها تحمل بالنهر".
كنهر = النهر يشير لنعم وخيرات الروح القدس (يو37:7-39) ولكن ما يلقيه إبليس يقال عنه كنهر = أى تعاليم زائفة مخادعة يخدع بها الأبرياء = وهذا النهر المخادع هو لذات وشرور هذا العالم، ومن ينخدع يموت. وهو تعاليم الهراطقة والفلسفات المخادعة وهذه تبدو كنهر ولكنها مرة كالإفسنتين وقاتلة كالسم. وهذا النهر لن يضر المرأة فلها جناحي النسر العظيم أى تحيا فى السمائيات والروحيات. النسر أعطاها إمكانية أن تهرب من فم التنين.
آية 16 "فاعانت الارض المراة و فتحت الارض فمها و ابتلعت النهر الذي القاه التنين من فمه".
فأعانت الأرض المرأة = هذه تعنى أن هناك أحداث تجرى على الأرض أى فى العالم خارج الكنيسة وهى بسماح من الله، وبسببها ينقذ الله الكنيسة. أمثلة:- إنتصار فارس على بابل وقيام دولة الفرس كان سببا فى تحرر شعب الله من يد بابل ورجوعه لأورشليم وبناء الهيكل.
مثال آخر من العصر الحديث. فلقد إضطهدت الدول الشيوعية المسيحيية إضطهادا رهيبا. وفى السنوات الأخيرة سمح الله بأحداث بسببها سقطت الشيوعية وأنقذ الله شعبه وكنيسته. وقد تنقذ الأرض المرأة من ملذات العالم بإثارة حروب ينسى معها الناس ملذات هذا العالم ويلجأون لله وهكذا. وقد يكون إنتشار الأوبئة والأمراض فى الأرض هو بسماح من الله، هذه الأرض قدمت هذه الأمراض لشعب الله ليزهد فى أمور هذه الدنيا ويرجع لله. وكم من مريض رجع لله وتحول إلى قديس وخلصت نفسه. وهذا ما قاله بطرس الرسول " فإن من تألم فى الجسد كف عن الخطية (1بط1:4). وربما فى أيام ضد المسيح تكثر الحروب مما يضعف ويفسد قوة ضد المسيح.
آية 17 "فغضب التنين على المراة و ذهب ليصنع حربا مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله و عندهم شهادة يسوع المسيح".
التنين يغضب ممن يحفظ وصايا الله. ولكن بحفظنا وصايا الله نثبت فى المسيح، وحينما يثير التنين حربا علينا يغلبه المسيح الذى نحن ثابتون فيه.
الرؤيا 12 - تفسير سفر الرؤيا
مقاومة التنين للكنيسة
في هذا الأصحاح تظهر الكنيسة المجاهدة:
1. مقاومة إبليس للكنيسة 1 – 6.
2. مساندة السماء للكنيسة 7 – 12.
3. اشتداد المقاومة 13 – 17.
1. مقاومة إبليس للكنيسة
"وظهرت آية عظيمة في السماء،
امرأة متسربلة بالشمس، والقمر تحت رجليها،
وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا.
وهى حُبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد"[1-2].
من هي هذه المرأة التي لها هذا الوصف؟ والتي ولدت الابن؟ والتي قاومها إبليس وقد هربت منه؟ والتي لا يزال يقاومها ويقاوم نسلها إلى أن يُطرح في البحيرة المتقدة بالنار؟ أقرَّ آباء الكنيسة الأولى أن هذه المرأة التي ولدت لنا الرب يسوع هي الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين منذ عهد الآباء، أي منذ آدم إلى نهاية الدهور.
يقول الأسقف فيكتورينوس:[إنها كنيسة الآباء والأنبياء والقديسين والرسل التي كانت تتسم بالتنهدات والآلام حتى رؤية السيد المسيح، ثمرة شعبها بالجسد الذي وعدوا به زمنًا طويلاً، آخذًا الجسد من نفس الشعب. والتحافها بالشمس يشير إلى رجاء القيامة في ظلمتهم. والقمر (تحت رجليها) يشير إلى سقوط أجساد القديسين تحت إلزاميّة الموت غير المنتهي... وهم منيرون كالقمر في ظلمتهم. والأكاليل من الإثنى عشر كوكبًا هو جوقة الآباء الذين منهم أخذ السيد المسيح جسدًا.]
لكن للأسف أخذ بعض المحدثين الغربيين ونقل عنهم بعض الشرقيين مثل هذا التفسير بصورة مشوهة فنادوا بأن هذه المرأة هي الشعب اليهودي وأن ما يتبع هذا خلال الإصحاحات (12-14) إنما يخص الشعب اليهودي. لكن يليق بنا أن نفهم "الكنيسة" في المفهوم الآبائي السليم من نفس التفسير السابق أنها كنيسة الآباء والأنبياء والقديسين والرسل.
بدأت الكنيسة بآدم ودخل في عضويتها الآباء مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وأخنوخ... وفي وقت الناموس انضم إلى عضويتها الشعب اليهودي ومعه بعض الأممين الداخلين الإيمان. في هذه الفترة جاء ربنا يسوع متجسدًا من الكنيسة، كنيسة العهد القديم، من اليهود، لكن خرج اليهود كيهودٍ من العضوية في الكنيسة، إذ انحرفوا عن الإيمان رافضين الخلاص، وبهذا لم يعودوا شعبًا مؤمنًا أو كنيسة أو إسرائيل، بل صاروا غير مؤمنين، وهم بهذا لم يغلقوا باب الكنيسة ولا ماتت بموتهم ولا انحرفت، لكن دخل الأمم كامتداد للكنيسة. وبهذا فإن الحديث عن المرأة يخص الكنيسة الواحدة التي فوق حدود الزمن والجنس. فالحديث في هذا الأصحاح يخص الكنيسة منذ نشأتها إلى نهاية الأجيال.
وحينما نقول "الكنيسة" لا نستطيع أن نفصلها عن العذراء مريم التي ارتبطنا بها في شخص السيد المسيح كأم جميع الأحياء[100]. فهي أيضًا كما يقول الآباء الأولون هي المرأة الملتحفة بالشمس والقمر تحت رجليها، إذ سكنها ربنا يسوع شمس البرّ، ونالت مجدًا سماويًا... التي ولدت الابن البكر[101].
وبنفس الروح وبغير أي تعريج نقول إن ما رآه الرسول في هذا الإصحاح يخص كنيسة العهد الجديد، لأنها غير منفصلة عن كنيسة العهد القديم، ولا مستقلة عنها، بل ينسب لها آباء العهد القديم والأنبياء والناموس والمواعيد. فإذ جاء ربنا يسوع متجسدًا من العذراء مريم أو من اليهود، إلا أنه يمكننا أن نقول أنه جاء متجسدًا من الكنيسة التي تعتز بعضوية العذراء مريم، والتي امتدت إلى الوراء حتى حملت في عضويتها جميع الذين جاء الرب منهم متجسدًا.
ويقول الأب هيبوليتس:[واضح جدًا أنه قصد بالمرأة المتسربلة بالشمس الكنيسة التي أمدها بكلمة الآب إذ بهاؤها يفوق الشمس[102].]
ويشير بقوله "القمر تحت رجليها" إلى كونها قد تجلت بمجد سماوي يفوق القمر. كما تشير العبارة "وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا" إلى الإثنى عشر رسولاً الذين أقاموا الكنيسة. وأما القول بأنه من أجل ابنها "تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد" فيعني أن الكنيسة لن تكف عن أن تحمل في قلبها "الكلمة" الذي يضطهده غير المؤمنين في العالم. هذه هي الكنيسة التي وصفها ربنا قائلاً: "من هي المشرقة مثل الصباح جميلة كالقمر. طاهرة كالشمس. مرهبة كجيش بألوية" (نش 6: 10).
هذه الكنيسة يقاومها إبليس، إذ يقول: "وظهرت آية أخرى في السماء، هوذا تنين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلى رؤوسه سبعة تيجان"
إنه منذ خلقة الإنسان ولا يكف إبليس "التنين" عن حسده له. هذا التنين العظيم "أحمر" وكما يقول الأسقف فيكتورينوس إن هذا اللون بسبب عمله، لأنه "كان قتَّالاً للناس من البدء" (يو 8: 44)، فهو لا يكف عن التخريب والتدمير بين البشرية محاولاً إهلاك أولاد الله. وله سبعة رؤوس، أي دائم التفكير في هذا القتال. وله عشرة قرون، أي يستخدم كل شدة قوته وسلطانه الممتد على الأرض لإفساد الإيمان. وعلى رؤوسه سبعة تيجان، إذ ينصب نفسه ملكًا في قلوب الأشرار مسيطرًا على أفكارهم ونيَّاتهم وحواسهم وتصرفاتهم ...
ويرى الأسقف فيكتورينوس أنه عندما يأتي ضد المسيح في أواخر الأزمنة سيخدع 10 ملوك (10 قرون) يستخدمهم في تحطيم الإيمان."وذنبه يجر ثُلث نجوم السماء،فطرحها إلى الأرض،والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد، حتى يبتلع ولدها متى ولدت"
يري البعض أن في هذا إشارة إلى أن ضد المسيح يخدع ثلث المؤمنين ويضللهم، لكن الأسقف فيكتورينوس يُرجح أن التفسير الأصوب هو أن الشيطان في سقوطه جذب إليه عددًا كبيرًا من الملائكة فسقطوا معه من السماء (يه 6). وفي هذا ينكشف لنا خطورته وتحفزه للإهلاك والإفساد.
ولم يقف عند إسقاطه لبعض الملائكة وتضليله للبشر، بل ظن أنه يُميت الرب يسوع، لكنه إذ هو ليس من زرع البشر لم يغلبه الموت، بل قام الرب من الأموات في اليوم الثالث، مقيمًا إيانا من قبر الخطية، مُصعدًا مؤمنيه إلى حيث هو قائم. لهذا يقول الرائي:
فولدت ابنًا ذكرًا عتيدًا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد،
واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه"
هذا الذي أراد إبليس افتراسه، هو راع يضم في حظيرته جميع الأمم، يسحق قوى الشر بعصا من حديد. وها هو في العرش الإلهي يرفع فيه البشرية الساقطة إلى الأعالي. هذا بالنسبة للسيد المسيح أما عن حال الكنيسة في غربتها فيقول الرائي:
"والمرأة هربت إلى البرية، حيث لها موضع معد من الله،
لكي يعولها هناك ألفًا ومئتين وستين يومًا"
إنها الكنيسة الهاربة دومًا من وجه إبليس لتعيش متقشفة في برية هذا العالم، تنتظر مسكنها الجديد، أورشليم السمائية، المعد لها من الله. ومدة الألف ومائتين وستين يومًا أي حوالي ثلاث سنين ونصف ترمز إلى كل أيام الغربة التي يقضيها المؤمنون على الأرض.
في كنيسة العهد القديم نجد إيليا هاربًا من وجه ايزابل ثلاث سنين ونصف. وفي كنيسة العهد الجديد نجد العذراء مريم مع ربنا يسوع يرافقهما يوسف النجار هاربين من وجه هيرودس الذي أثاره إبليس (وقد قيل أنهم بقوا ثلاث سنين ونصف). وفي فترة ضد المسيح أيضًا تعاني الكنيسة منه حوالي ثلاث سنين ونصف هاربة في البراري والجبال من شدة الضيق.
2. مساندة السماء للكنيسة
"وحدثت حرب في السماء:
ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته.ولم يقووا، فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء
يرى الأسقف فيكتورينوس أن هذه هي بداية فترة "ضد المسيح" إذ يحارب رئيس الملائكة ميخائيل إبليس، فيقوى عليه ويُسقطه من السماء حتى لا يشتكي ضد المؤمنين. وهنا يجدر بالمؤمنين أن يقفوا قليلاً يتأملون في محبة "رئيس جند الرب" الملاك الجليل الذي يحامي عن أولاد الله (دا 12: 1؛ 1 تس 4: 16؛ يه 9). إذ هو كملاك نوراني يشتهي أن نصير نورانيين، مقاتلاً عنا ملائكة الظلمة!
على أثر هذه الحرب يسقط إبليس محتضرًا لهذا يبث كل سمومه، باذلاً كل طاقاته للانتقام فيما تبقى له من وقت يسير لكي يُطرح في جهنم إلى الأبد. وبهذا تبدأ فترة ضد المسيح ويأتي الشاهدان.
"فطرح التنين العظيم الحيَّة القديمة المدعو إبليس،
والشيطان الذي يضل العالم كله طُرح إلى الأرض،
وطُرحت معه ملائكته"
يا لها من نصرة عظيمة أن يسقط إبليس من السماء لكي لا يشتكي علينا، لكنه في اللحظات الأخيرة له لا يكف عن التضليل وهو يُدعى:
1. التنين العظيم، أي ضخمًا قاسيًا مرعبًا.
2. الحية القديمة، له خبرة طويلة في الخداع، وعداوته لنا منذ وجدت البشرية (تك 3: 2، 15).
3. إبليس أي "المفتري ظلمًا"، إذ يفتري على الكنيسة دومًا.
4. الشيطان، أي المُعاند.
5. "الذي يضل العالم كله"... وهذه هي طبيعة عمله.
إذ سقط العدو في أنفاسه الأخيرة يقول الرسول:
"وسمعت صوتًا عظيمًا ً في السماء:الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه،لأنه قد طُرح المشتكي على إخوتنا،الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارًا وليلاٌ.وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم،
ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.من أجل ذلك افرحي أيتها السماوات والساكنون فيها.ويل لساكني الأرض والبحر،لأن إبليس نزل إليكم،وبه غضب عظيم، عالمًا أن له زمانًا قليلاً" [10-12].
لقد تكشف للسمائيون ضعف إبليس وظهرت هزيمته عندما أُلقيَ من السماء (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لقد ابتهجوا باقتراب إعلان نصرة الإنسان في يوم الدينونة المجيد، وذلك بالدم الثمين. وفي بهجتهم وحبهم للبشر دعوا الكنيسة التي لا تزال في الأرض مجاهدة "إخوتهم"، إذ سيصيرون مثلهم تقريبًا كملائكة الله.
لقد امتزجت مشاعر الترنيم والفرح بالإشفاق من أجل ما ستعانيه الكنيسة من إبليس بنزوله إليها لمحاربتها في شخص ضد المسيح وأتباعه. لكن لتترنم السماء، وليفرح أيضًا الذين في الفردوس، ولتستعد الأبدية للعرس الأبدي، لأنه قد اقتربت الساعة للغاية وبقي زمان قليل!
3. اشتداد المقاومة
"ولما رأي التنين أنه طرح إلى الأرض، اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر.فأُعطيت المرأة جناحي النسر العظيم، لكي تطير إلى البرية إلى موضعها، حيث تُعال زمانًا وزمانين ونصف زمان من وجه الحيَّة" [13-14].
إذ يشن التنين هجومًا شيطانيًا ضد الكنيسة، يهب الله لها "جناحيّ نسر"، فتكون كالنسر هاربة من ضد المسيح لا في خزي وعار بل بقوة هائمة في البرية بعيدًا عن أدناسه. وكما يقول النبي: "وأما منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون" (إش 40: 31).
ويرى الأسقف فيكتورينوس أن جناحي النسر هما النبيان اللذان ينذران المؤمنين بالذهاب إلى البراري. ويرى الأب هيبوليتس أنهما الإيمان بالسيد المسيح، الذي يشبه نفسه بالدجاجة التي تجمع أولادها تحت جناحيها.
ويتأمل كثيرون في هذين الجناحين ليروهما لازمين في كل عصر، وفي حياة كل مؤمن، لكي يطير هائمًا في السماويات بعيدًا عن شهوات العالم. فمنهم من نادى أنهما الإيمان والأعمال، أو محبة السماويات والاستهانة بالأرضيات، أو محبة الله ومحبة القريب، أو الرغبة في مجد الله والرغبة في خلاص الناس.
على أي الأحوال لننتفع بهذين الجناحين ولنصعد بربنا يسوع لنجلس معه في السماويات. لكن الحيَّة القديمة لن تتوقف عن الزحف وراءنا ومقاومتنا:
"فألقت الحيَّة من فمها وراء المرأة كنهر، لتجعلها تُحمل بالنهر" [15].
يرى الأسقف فيكتوريانوس أن هذا الماء[يشير إلى الجموع التي يسيطر عليها ضد المسيح وتضطهد الكنيسة.]
ويبدو أن المقاومة ستكون في منتهى الشدة، فإذا طبقنا ما جاء في دانيال النبي (11: 31-35) على هذه الفترة، فإننا نعلم أن ضد المسيح يدخل إلى الكنائس ويُدنس الهياكل ويفسد ويُخرب ولا تُقدم الذبيحة، ويستخدم كل وسائل التملق لإغواء المؤمنين، حتى أن بعض الفاهمين يتعثرون. لكن الله لا يترك أولاده هكذا يهلكون، بل "أما الشعب الذين يعرفون إلههم فيقْوون ويعملون والفاهمون من الشعب يعلمون كثيرين" (دا 11: 32- 33).
يقول الرائي: "فأعانت الأرض المرأة، وفتحت الأرض فمها، وابتلعت النهر الذي ألقاه التنين من فمه. فغضب التنين على المرأة، وذهب ليصنع حربًا مع باقي نسلها، الذين يحفظون وصايا الله، وعندهم شهادة يسوع المسيح" [16-17].
ولعل الإعانة تكون بإثارة الحرب بين بعض الممالك مما يفسد قوة ضد المسيح ويهز كيانه (راجع تفسير رؤ 9).