هل كانت المؤشرات التنموية التونسية مزورة؟
منير حداد
GMT
12:55:00 2011 الخميس 27 يناير
حتى الانتفاضة
الأخيرة، كانت التحاليل الاقتصادية و الاجتماعية للواقع التونسي تقدم صورة شبه
وردية لدولة استثنائية تعيش في محيط عربي و إسلامي غارق في التخلف و الفقر. لكن
الصورة التي شاهدناها مؤخرا على شاشات التلفزيون من بطالة و فقر مدقع، خصوصا في
مناطق الوسط الغربي و الجنوب، يبدو أنها هزت هذه الصورة الوردية عند الكثيرين، مما
أعاد إلى الأذهان إمكانية أن تكون المؤشرات التي اعتمدت عليها التقارير السابقة عن
التنمية التونسية مزورة، أي أن البيانات الرسمية المعتمدة لم تكن تعكس الواقع
المعاش للتوانسة. فهل هذا أمر وارد؟
أول هذه المؤشرات تخص نسبة النمو الاقتصادي،
إذ حقق النمو المسجل معدل 5% سنويا على المدى الطويل. و هذه النسبة مشكوك في
تزويرها بحكم أنها نسبة محدودة مقارنة مع ما سجلته النمور الآسيوية (7%) و ما تحققه
الصين و الهند خلال الفترة الأخيرة (ما يقارب 10%). كما من المهم التنويه بوجود
مؤشرات أخرى يتم الرجوع إليها لاعتماد نسبة النمو الاقتصادي، مثل نسبة زيادة
الواردات التي يمكن التثبت فيها من خلال الرجوع إلى بيانات صادرات الدول الأخرى
(خصوصا دول الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتونس).
على هذا الأساس، فان أرقام معدل
الفرد من الدخل القومي الحالي ما هي إلا نتيجة لهذه الزيادة التي تراكمت على مدى
عقود طويلة، و عدم إمكانية التزوير في النسب السنوية يعني عدم إمكانية التزوير في
النتيجة النهائية لمعدل دخل الفرد. لذلك يجب أن نصدق بيانات معدل الفرد من الدخل
القومي، بعد الأخذ بعين الاعتبار الفارق في مستوى الأسعار بين الدول (مضاعفة معدل
الدخل في الدولة التي تكون أسعارها نصف المستوى الأمريكي، على سبيل المثال). و هذه
البيانات (مقومة بالمقدرة الشرائية للدولار الأمريكي) تعطي 9500 دولار للمواطن
التونسي مقابل 6200 دولار فقط للمواطن المصري. و لا غرابة في هذا الفارق إذا ما
أدركنا أنه يأخذ بعين الاعتبار عدد السكان، و هو رقم منخفض نسبيا في تونس نتيجة
السياسة الحازمة لتحديد النسل التي اتبعتها الدولة منذ حصولها على
الاستقلال.
أما المجموعة الثانية من المؤشرات فهي تخص ظروف عيش المواطن و في
مقدمتها المؤشرات الصحية، مثل نسبة الإنفاق العام على الصحة من الناتج المحلي
الإجمالي الذي بلغ 17% في تونس، مقارنة بأقل من 6% في كل من المغرب، مما مكن 93% من
سكان تونس من الحصول على الخدمات الصحية، مقارنة بنسبة 70% في المغرب. و ينعكس هذا
على تحسن الوضع الصحي للمرضى، و من أهم مؤشراته معدل وفيات الأمهات (لكل 100 ألف
مولود حي) الذي يبلغ 18 حالة وفاة في تونس، مقابل 59 في مصر و 227 في المغرب. و هذه
أرقام يتم استخراجها من بيانات الحالة المدنية و المستشفيات، لذا سوف يكون من الصعب
تزويرها.
و أما المجموعة الثالثة فهي تخص التعليم، حيث تم تعميم التعليم الأساسي
كما تم تمكين نسبة 85% من التعليم الثانوي و نسبة 31% من الشباب التعليم العالي،
مقارنة بنسب 56% و 11%، على التوالي في المغرب. و هذه البيانات تأتي من عدد الطلبة
المسجلين في المدارس و الجامعات، لذا يسهل الكشف عن أي تزوير فيها. و لا نعتقد أن
منظمة اليونسكو، على سبيل المثال، سوف تعتمد أية أرقام لا علاقة بالواقع
التونسي.
خلاصة ما سبق إن الأرقام و المؤشرات التنموية التي تم اعتمادها في تونس
لم تكن مزورة، أو على الأقل لم تكن مزورة بالقدر الذي يجعلها تحجب الواقع المعاش
للمواطنين، كما يدعي كثيرون هذه الأيام. و الصورة الوردية التي بنيت على هذه
المؤشرات لا تتناقض مع وجود بعض مظاهر الفقر المدقع في بعض الأقاليم و الأحياء
المعوزة لأنها ببساطة مجرد معدلات قومية.
لكن مع رأيي بعدم القدرة على تزوير
البيانات بالقدر الكافي الذي من شانه تمكين النظام التونسي السابق من تقديم صورة
مغايرة للواقع تماما، اعتقد أن بعض البيانات الرسمية قد لا تعكس كامل الحقيقة، مثل
نسبة التضخم التونسية التي تقل عن 3% سنويا و التي يمكن التلاعب بها بإعطاء المواد
الاستهلاكية المدعومة من الحكومة وزنا اكبر من اللازم في سلة المستهلك.
كذلك
ربما كان هناك بعض "الكذب الإحصائي" في عرض البيانات مثل نسبة 31% من الشباب
المسجلين في التعليم العالي، إذ أن المعلوم أن نصفهم على الأقل يحصلون على تكوين
ضعيف لا يتلاءم إطلاقا مع احتياجات سوق العمل. و من ثم فان اعتبارهم طلبة تعليم
عالي يجافي الحقيقة إلى حد كبير.
خلاصة القول إذا و بالرغم من بعض التحفظات ، لا
يمكن اعتبار الصورة الوردية للتنمية التونسية التي حملتها لنا البيانات الرسمية و
التقارير الدولية التي بنيت عليها، مجرد صورة مشوهة للواقع نتيجة تزوير حكومي مدبر
من طرف النظام السابق. و يعني هذا أن الانتفاضة الشعبية الأخيرة قد وقعت رغم
التنمية التي تحققت في البلاد، خلال العقود الستة الماضية، أو أنها نتيجة هذه
التنمية التي جعلت نظام حكم الفرد غير ملائم لما بلغه الشعب التونسي من تطور و
حداثة في المجالات الاجتماعية و العلمية و الاقتصادية، أو أن الثورات تقع لأسباب
سياسية لا علاقة لها بالتنمية و الظروف المادية للمواطن.
منير حداد
GMT
12:55:00 2011 الخميس 27 يناير
حتى الانتفاضة
الأخيرة، كانت التحاليل الاقتصادية و الاجتماعية للواقع التونسي تقدم صورة شبه
وردية لدولة استثنائية تعيش في محيط عربي و إسلامي غارق في التخلف و الفقر. لكن
الصورة التي شاهدناها مؤخرا على شاشات التلفزيون من بطالة و فقر مدقع، خصوصا في
مناطق الوسط الغربي و الجنوب، يبدو أنها هزت هذه الصورة الوردية عند الكثيرين، مما
أعاد إلى الأذهان إمكانية أن تكون المؤشرات التي اعتمدت عليها التقارير السابقة عن
التنمية التونسية مزورة، أي أن البيانات الرسمية المعتمدة لم تكن تعكس الواقع
المعاش للتوانسة. فهل هذا أمر وارد؟
أول هذه المؤشرات تخص نسبة النمو الاقتصادي،
إذ حقق النمو المسجل معدل 5% سنويا على المدى الطويل. و هذه النسبة مشكوك في
تزويرها بحكم أنها نسبة محدودة مقارنة مع ما سجلته النمور الآسيوية (7%) و ما تحققه
الصين و الهند خلال الفترة الأخيرة (ما يقارب 10%). كما من المهم التنويه بوجود
مؤشرات أخرى يتم الرجوع إليها لاعتماد نسبة النمو الاقتصادي، مثل نسبة زيادة
الواردات التي يمكن التثبت فيها من خلال الرجوع إلى بيانات صادرات الدول الأخرى
(خصوصا دول الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتونس).
على هذا الأساس، فان أرقام معدل
الفرد من الدخل القومي الحالي ما هي إلا نتيجة لهذه الزيادة التي تراكمت على مدى
عقود طويلة، و عدم إمكانية التزوير في النسب السنوية يعني عدم إمكانية التزوير في
النتيجة النهائية لمعدل دخل الفرد. لذلك يجب أن نصدق بيانات معدل الفرد من الدخل
القومي، بعد الأخذ بعين الاعتبار الفارق في مستوى الأسعار بين الدول (مضاعفة معدل
الدخل في الدولة التي تكون أسعارها نصف المستوى الأمريكي، على سبيل المثال). و هذه
البيانات (مقومة بالمقدرة الشرائية للدولار الأمريكي) تعطي 9500 دولار للمواطن
التونسي مقابل 6200 دولار فقط للمواطن المصري. و لا غرابة في هذا الفارق إذا ما
أدركنا أنه يأخذ بعين الاعتبار عدد السكان، و هو رقم منخفض نسبيا في تونس نتيجة
السياسة الحازمة لتحديد النسل التي اتبعتها الدولة منذ حصولها على
الاستقلال.
أما المجموعة الثانية من المؤشرات فهي تخص ظروف عيش المواطن و في
مقدمتها المؤشرات الصحية، مثل نسبة الإنفاق العام على الصحة من الناتج المحلي
الإجمالي الذي بلغ 17% في تونس، مقارنة بأقل من 6% في كل من المغرب، مما مكن 93% من
سكان تونس من الحصول على الخدمات الصحية، مقارنة بنسبة 70% في المغرب. و ينعكس هذا
على تحسن الوضع الصحي للمرضى، و من أهم مؤشراته معدل وفيات الأمهات (لكل 100 ألف
مولود حي) الذي يبلغ 18 حالة وفاة في تونس، مقابل 59 في مصر و 227 في المغرب. و هذه
أرقام يتم استخراجها من بيانات الحالة المدنية و المستشفيات، لذا سوف يكون من الصعب
تزويرها.
و أما المجموعة الثالثة فهي تخص التعليم، حيث تم تعميم التعليم الأساسي
كما تم تمكين نسبة 85% من التعليم الثانوي و نسبة 31% من الشباب التعليم العالي،
مقارنة بنسب 56% و 11%، على التوالي في المغرب. و هذه البيانات تأتي من عدد الطلبة
المسجلين في المدارس و الجامعات، لذا يسهل الكشف عن أي تزوير فيها. و لا نعتقد أن
منظمة اليونسكو، على سبيل المثال، سوف تعتمد أية أرقام لا علاقة بالواقع
التونسي.
خلاصة ما سبق إن الأرقام و المؤشرات التنموية التي تم اعتمادها في تونس
لم تكن مزورة، أو على الأقل لم تكن مزورة بالقدر الذي يجعلها تحجب الواقع المعاش
للمواطنين، كما يدعي كثيرون هذه الأيام. و الصورة الوردية التي بنيت على هذه
المؤشرات لا تتناقض مع وجود بعض مظاهر الفقر المدقع في بعض الأقاليم و الأحياء
المعوزة لأنها ببساطة مجرد معدلات قومية.
لكن مع رأيي بعدم القدرة على تزوير
البيانات بالقدر الكافي الذي من شانه تمكين النظام التونسي السابق من تقديم صورة
مغايرة للواقع تماما، اعتقد أن بعض البيانات الرسمية قد لا تعكس كامل الحقيقة، مثل
نسبة التضخم التونسية التي تقل عن 3% سنويا و التي يمكن التلاعب بها بإعطاء المواد
الاستهلاكية المدعومة من الحكومة وزنا اكبر من اللازم في سلة المستهلك.
كذلك
ربما كان هناك بعض "الكذب الإحصائي" في عرض البيانات مثل نسبة 31% من الشباب
المسجلين في التعليم العالي، إذ أن المعلوم أن نصفهم على الأقل يحصلون على تكوين
ضعيف لا يتلاءم إطلاقا مع احتياجات سوق العمل. و من ثم فان اعتبارهم طلبة تعليم
عالي يجافي الحقيقة إلى حد كبير.
خلاصة القول إذا و بالرغم من بعض التحفظات ، لا
يمكن اعتبار الصورة الوردية للتنمية التونسية التي حملتها لنا البيانات الرسمية و
التقارير الدولية التي بنيت عليها، مجرد صورة مشوهة للواقع نتيجة تزوير حكومي مدبر
من طرف النظام السابق. و يعني هذا أن الانتفاضة الشعبية الأخيرة قد وقعت رغم
التنمية التي تحققت في البلاد، خلال العقود الستة الماضية، أو أنها نتيجة هذه
التنمية التي جعلت نظام حكم الفرد غير ملائم لما بلغه الشعب التونسي من تطور و
حداثة في المجالات الاجتماعية و العلمية و الاقتصادية، أو أن الثورات تقع لأسباب
سياسية لا علاقة لها بالتنمية و الظروف المادية للمواطن.