يمن بلا يهود نفق مظلم (2) يهود اليمن: أعمدة الاقتصاد
والصناعة الصناعات والحرف التقليدية –نموذجاً
أروى
عثمان
الثلثاء 25 كانون الثاني (يناير)
2011
" .. أتريد من الدقة (أي النقشة) التركية الحديثة، أم من الدقة القديمة الخاصة
بالقبائل؟! قلت: أرني جميع ما عندك! والحق يقال أن بعضها جميل جداً وعليه نقوش لم
أشاهد مثلها في الشام ومصر، وجميعها مصنوعة من الفضة وبعضها مطلية بماء الذهب.
ورأيت العمال إلى جانبي يصبون بعض الحلي بقوالب خاصة ويشتغلون بعضها باليد
ويحفرونها أشكالاً غريبة. ورغم ضخامتها فإن عليها مسحة من الجمال قلما يراها
الإنسان في المصوغات الحديثة في البلاد المتمدنة".
رحلة في العربية السعيدة.. نزيه مؤيد العظم
في الوقت الذي كان فيه العمل محقراً ومدنساً عند بعض طبقات المجتمع اليمني
القائم على التراتبية الصارمة واللا إنسانية في بعض الأحيان، باعتبار العمل ينتقص
من شرف وتقاليد هذه الطبقات، كان اليهودي اليمني، وعلى مراحل تاريخه ووجوده على هذه
الأرض، يقدس العمل تقديساً عظيماً، أكان رجلاً أم امرأة أم طفلاً... الكل يعمل
ويحترم قيمة العمل. هذا التقديس جعل اليهودي يتفنن ويبدع في كل شغل يشتغله، فكل شيء
يمسكه اليهودي يحوله إلى تحفة فنية، خصوصاً حين يشتغل المصوغات الفضية والذهبية
والمنسوجات والمعمار والجبسيات وغيره. وانعكس احترامهم لقيمة العمل في احترامهم
المسؤول لمواعيد الزبائن بدقة متناهية. وهذه الميزات وغيرها مازالت حتى اللحظة تسكن
ذاكرة كل من عايش وعاصر وعرف اليهود، أكان من اليمنيين أم من الرحالة العرب
والأجانب الذين زاروا اليمن. ولتلك الميزات المتفردة عند يهود اليمن، حملوا عن
جدارة لقب: "رجال الصناعة في اليمن".
وراثة الشغل الحرفي
ما زالت السمعة الطيبة ليهود اليمن في المهارة والإتقان لمجموع من الصناعات
الحرفية اليمنية ذائعة الصيت حتى اليوم، فنرى الإقدام واللهاث من قبل اليمنيين أو
السياح لشراء ما تبقى من مصوغات وحرف اليهود بأسعار باهظة، خصوصاً إذا ما وجد عليها
الختم اليهودي. ولذا تجد بعض أصحاب المحلات يبتكرون أختاما مزورة، ويغلظون الأيمان
من أجل تسويق بعض المشغولات الجلدية والنسيجية، ويزعمون أن شغلها يهودي خالص.
لقد تطورت الصناعات التقليدية ليهود اليمن في امتدادها الزمني، والمكاني أيضاً،
وأخذت مداها الطويل على مستوى التوريث والتجديد، إذ كان اليهود يورثون شغلهم
لأولادهم، أباً عن جد، والذين بدورهم جددوا مشغولاتهم بالاستفادة من انفتاحهم على
الصناعات الحديثة التي كانت تجلب من الخارج عن طريق عدن والأتراك... الخ. وكل هذا
الحس البديع لأنامل اليهود كان في ظل ظروف صعبة شهدها اليمن اقتصادياً وسياسياً
واجتماعياً، قبل الثورة.
قرى تتحول إلى مصانع صغيرة
هناك خصيصة يتمتع بها اليهود اليمنيون، فأينما كانوا يحلون، في أية قرية أو جبل
أو واد أو صحراء... يحولون المكان الذي يقطنون فيه إلى حياة مختلفة، ونشاط مختلف،
تتحول المنطقة إلى معامل وورش للصناعات والحرف بكل أنواعها؛ ولذا سمي كثير من المدن
والقرى اليمنية، والتي شغل فيها اليهود حيزاً، بـ: "المصنعة"، "صنعاء"، "الصنع"...
الخ. ويقول حاييم حبشوش في الكتاب الفريد "رؤية اليمن بين حبشوش وهاليفي"، إن منطقة
"حبان" شرقي اليمن كان بها 30 عائلة بالصياغة، وفي منطقة عمران 15 عائلة تشتغل
بصناعة الفخار.
يهود ذمار
ولننظر إلى ما أورده يافييلي عن رحلته إلى اليمن في بداية القرن العشرين، فيحصي
عدد حرف يهود ذمار (عام 1911) كالتالي:
صائغ فضيات 50 عاملا، جلديات "مجرمم" 22، طحان 19، حذاء 6، حائك 5، نجار 4، خياط
مطرزاتي 4، صانع فخار 4، جامع فضلات 4، مصلح فخار3، خياط وسائد "موسد" 2، صانع
مناخل 2، دلال 2، بقال 2، نحات حجر الطاحون 2، صانع العطوس 1، لحام 2، كاتب 4، صانع
السروج 2، تاجر الملابس 1، عامل تناوير 2، بناء 1، مصلح أحذية 1، حجام 1، خادم 1،
نداف قطن1، فضلاً عن العديد من المهن التي يذكرها كالحلاقة، وتجليد الكتب، وسائس
الخيل، والصباغة، وتسليف النقود، والعطارة، والغزل وصناعة الصابون... الخ (كاميليا
أبو جبل: يهود اليمن).
فيهود اليمن، بالأمس والحاضر والغد، لا يمكن الاستغناء عنهم وعن خدماتهم مطلقاً.
وهاهو الرحالة المصري الذي زار اليمن في ثلاثينيات القرن الماضي يقول: " إذا فسدت
ساعة لا يصلحها إلا اليهودي، وإذا فسد موقد البترول لم نجد من يصلحه إلا يهودياً.
كما أن الخبز الذي نأكله لا يصنعه إلا اليهود".
وتذكر كتب التاريخ أن بعض حكام اليمن إذا هجّروا اليهود من منطقة إلى أخرى تجدب
تلك المنطقة، فلا يجدوا من يشتغل؛ "لقد تحسر المسلمون لإجلاء اليهود عن صنعاء، إذ
لم يبق أحد للقيام بالأعمال التي كانوا يحتاجون إليها، وكان كل اليهود من الحرفيين،
بعضهم يحوك الملابس، بعضهم يعمل في صياغة الفضة، وإصلاح المطاحن والحدادة والتجارة،
والسكافة، والبناء وصناعة الآجر... كانوا يتعاطون كل الحرف، فقرر المسلمون السماح
لليهود بالعودة، ولكن لم يسمح لهم بالإقامة سوى خارج المدينة" (انظر، لكاتبة هذه
السطور، كتاب: شيخ الليل والتاريخ العسكري للبعثة العراقية).
لذا عندما هاجر يهود اليمن دمر الاقتصاد اليمني، وانقرض كثير من الحرف
والصناعات، ومازال الموروث الحرفي حتى اليوم، برغم محاولات إنعاشه، يعاني السقم
والموت في كثير من الأحيان.
الكل يعمل
ولعل ما أعلى من قيمة العمل والصناعات أن الجميع يشتغل، ولا يوجد في ثقافتهم
نظريات تقسيم العمل القاسي، فئة تعمل وتكدح وأخرى تأكل وتستريح، فالكل يعمل، بقطع
النظر عن مستواه الاجتماعي والديني، فهذا الولي والحبر والشاعر الكبير سالم الشبزي
كان -بجانب مكانته الأدبية والدينية- يعمل خياطاً، ويقال إن "الصارم" كان يعمل في
صناعة الأحذية، ويتمتع بمنصب دينيٍ، وأن "الأبيض" كان حاخاماَ ويعمل في صياغة
الذهب.
حِرَف في مواجهة الصناعات الأوربية
ولأن اليهودي إنسان حذق وفطن وعارف لاقتصاد السوق، فقد كان يعمل. وكما يذكر
الكثير من الأحياء، فإن اليهودي يظل يشتغل منذ شروق الشمس ولا يتوقف إلا عند
المغيب، بل ويواصل عمله في المنزل (فبيوتهم أيضاً ورش عمل، وتساعدهم نساؤهم).
لقد أراد اليهودي التميز ليتمكن من "الصمود أمام مزاحمة البضائع الصناعية
الأوربية للبضائع المحلية" في بدايات القرن العشرين، يمن العزلة. هذا هو اليهودي
الذي يتطلع وبطموح منقطع النظير أمام الصناعات الأوربية، ذات الجودة العالية،
والآلات الحديثة، ما جعله يضاعف ساعات العمل، ويتفنن ويبدع، بآلاته التقليدية
القديمة، لينافس الصناعات الأوربية.
والصناعة الصناعات والحرف التقليدية –نموذجاً
أروى
عثمان
الثلثاء 25 كانون الثاني (يناير)
2011
" .. أتريد من الدقة (أي النقشة) التركية الحديثة، أم من الدقة القديمة الخاصة
بالقبائل؟! قلت: أرني جميع ما عندك! والحق يقال أن بعضها جميل جداً وعليه نقوش لم
أشاهد مثلها في الشام ومصر، وجميعها مصنوعة من الفضة وبعضها مطلية بماء الذهب.
ورأيت العمال إلى جانبي يصبون بعض الحلي بقوالب خاصة ويشتغلون بعضها باليد
ويحفرونها أشكالاً غريبة. ورغم ضخامتها فإن عليها مسحة من الجمال قلما يراها
الإنسان في المصوغات الحديثة في البلاد المتمدنة".
رحلة في العربية السعيدة.. نزيه مؤيد العظم
في الوقت الذي كان فيه العمل محقراً ومدنساً عند بعض طبقات المجتمع اليمني
القائم على التراتبية الصارمة واللا إنسانية في بعض الأحيان، باعتبار العمل ينتقص
من شرف وتقاليد هذه الطبقات، كان اليهودي اليمني، وعلى مراحل تاريخه ووجوده على هذه
الأرض، يقدس العمل تقديساً عظيماً، أكان رجلاً أم امرأة أم طفلاً... الكل يعمل
ويحترم قيمة العمل. هذا التقديس جعل اليهودي يتفنن ويبدع في كل شغل يشتغله، فكل شيء
يمسكه اليهودي يحوله إلى تحفة فنية، خصوصاً حين يشتغل المصوغات الفضية والذهبية
والمنسوجات والمعمار والجبسيات وغيره. وانعكس احترامهم لقيمة العمل في احترامهم
المسؤول لمواعيد الزبائن بدقة متناهية. وهذه الميزات وغيرها مازالت حتى اللحظة تسكن
ذاكرة كل من عايش وعاصر وعرف اليهود، أكان من اليمنيين أم من الرحالة العرب
والأجانب الذين زاروا اليمن. ولتلك الميزات المتفردة عند يهود اليمن، حملوا عن
جدارة لقب: "رجال الصناعة في اليمن".
وراثة الشغل الحرفي
ما زالت السمعة الطيبة ليهود اليمن في المهارة والإتقان لمجموع من الصناعات
الحرفية اليمنية ذائعة الصيت حتى اليوم، فنرى الإقدام واللهاث من قبل اليمنيين أو
السياح لشراء ما تبقى من مصوغات وحرف اليهود بأسعار باهظة، خصوصاً إذا ما وجد عليها
الختم اليهودي. ولذا تجد بعض أصحاب المحلات يبتكرون أختاما مزورة، ويغلظون الأيمان
من أجل تسويق بعض المشغولات الجلدية والنسيجية، ويزعمون أن شغلها يهودي خالص.
لقد تطورت الصناعات التقليدية ليهود اليمن في امتدادها الزمني، والمكاني أيضاً،
وأخذت مداها الطويل على مستوى التوريث والتجديد، إذ كان اليهود يورثون شغلهم
لأولادهم، أباً عن جد، والذين بدورهم جددوا مشغولاتهم بالاستفادة من انفتاحهم على
الصناعات الحديثة التي كانت تجلب من الخارج عن طريق عدن والأتراك... الخ. وكل هذا
الحس البديع لأنامل اليهود كان في ظل ظروف صعبة شهدها اليمن اقتصادياً وسياسياً
واجتماعياً، قبل الثورة.
قرى تتحول إلى مصانع صغيرة
هناك خصيصة يتمتع بها اليهود اليمنيون، فأينما كانوا يحلون، في أية قرية أو جبل
أو واد أو صحراء... يحولون المكان الذي يقطنون فيه إلى حياة مختلفة، ونشاط مختلف،
تتحول المنطقة إلى معامل وورش للصناعات والحرف بكل أنواعها؛ ولذا سمي كثير من المدن
والقرى اليمنية، والتي شغل فيها اليهود حيزاً، بـ: "المصنعة"، "صنعاء"، "الصنع"...
الخ. ويقول حاييم حبشوش في الكتاب الفريد "رؤية اليمن بين حبشوش وهاليفي"، إن منطقة
"حبان" شرقي اليمن كان بها 30 عائلة بالصياغة، وفي منطقة عمران 15 عائلة تشتغل
بصناعة الفخار.
يهود ذمار
ولننظر إلى ما أورده يافييلي عن رحلته إلى اليمن في بداية القرن العشرين، فيحصي
عدد حرف يهود ذمار (عام 1911) كالتالي:
صائغ فضيات 50 عاملا، جلديات "مجرمم" 22، طحان 19، حذاء 6، حائك 5، نجار 4، خياط
مطرزاتي 4، صانع فخار 4، جامع فضلات 4، مصلح فخار3، خياط وسائد "موسد" 2، صانع
مناخل 2، دلال 2، بقال 2، نحات حجر الطاحون 2، صانع العطوس 1، لحام 2، كاتب 4، صانع
السروج 2، تاجر الملابس 1، عامل تناوير 2، بناء 1، مصلح أحذية 1، حجام 1، خادم 1،
نداف قطن1، فضلاً عن العديد من المهن التي يذكرها كالحلاقة، وتجليد الكتب، وسائس
الخيل، والصباغة، وتسليف النقود، والعطارة، والغزل وصناعة الصابون... الخ (كاميليا
أبو جبل: يهود اليمن).
فيهود اليمن، بالأمس والحاضر والغد، لا يمكن الاستغناء عنهم وعن خدماتهم مطلقاً.
وهاهو الرحالة المصري الذي زار اليمن في ثلاثينيات القرن الماضي يقول: " إذا فسدت
ساعة لا يصلحها إلا اليهودي، وإذا فسد موقد البترول لم نجد من يصلحه إلا يهودياً.
كما أن الخبز الذي نأكله لا يصنعه إلا اليهود".
وتذكر كتب التاريخ أن بعض حكام اليمن إذا هجّروا اليهود من منطقة إلى أخرى تجدب
تلك المنطقة، فلا يجدوا من يشتغل؛ "لقد تحسر المسلمون لإجلاء اليهود عن صنعاء، إذ
لم يبق أحد للقيام بالأعمال التي كانوا يحتاجون إليها، وكان كل اليهود من الحرفيين،
بعضهم يحوك الملابس، بعضهم يعمل في صياغة الفضة، وإصلاح المطاحن والحدادة والتجارة،
والسكافة، والبناء وصناعة الآجر... كانوا يتعاطون كل الحرف، فقرر المسلمون السماح
لليهود بالعودة، ولكن لم يسمح لهم بالإقامة سوى خارج المدينة" (انظر، لكاتبة هذه
السطور، كتاب: شيخ الليل والتاريخ العسكري للبعثة العراقية).
لذا عندما هاجر يهود اليمن دمر الاقتصاد اليمني، وانقرض كثير من الحرف
والصناعات، ومازال الموروث الحرفي حتى اليوم، برغم محاولات إنعاشه، يعاني السقم
والموت في كثير من الأحيان.
الكل يعمل
ولعل ما أعلى من قيمة العمل والصناعات أن الجميع يشتغل، ولا يوجد في ثقافتهم
نظريات تقسيم العمل القاسي، فئة تعمل وتكدح وأخرى تأكل وتستريح، فالكل يعمل، بقطع
النظر عن مستواه الاجتماعي والديني، فهذا الولي والحبر والشاعر الكبير سالم الشبزي
كان -بجانب مكانته الأدبية والدينية- يعمل خياطاً، ويقال إن "الصارم" كان يعمل في
صناعة الأحذية، ويتمتع بمنصب دينيٍ، وأن "الأبيض" كان حاخاماَ ويعمل في صياغة
الذهب.
حِرَف في مواجهة الصناعات الأوربية
ولأن اليهودي إنسان حذق وفطن وعارف لاقتصاد السوق، فقد كان يعمل. وكما يذكر
الكثير من الأحياء، فإن اليهودي يظل يشتغل منذ شروق الشمس ولا يتوقف إلا عند
المغيب، بل ويواصل عمله في المنزل (فبيوتهم أيضاً ورش عمل، وتساعدهم نساؤهم).
لقد أراد اليهودي التميز ليتمكن من "الصمود أمام مزاحمة البضائع الصناعية
الأوربية للبضائع المحلية" في بدايات القرن العشرين، يمن العزلة. هذا هو اليهودي
الذي يتطلع وبطموح منقطع النظير أمام الصناعات الأوربية، ذات الجودة العالية،
والآلات الحديثة، ما جعله يضاعف ساعات العمل، ويتفنن ويبدع، بآلاته التقليدية
القديمة، لينافس الصناعات الأوربية.