حسن جبر: من بطن أمه للقبر!
عصام عبدالله GMT 6:54:00 2011 الإثنين 14 فبراير
في لقاء تليفزيوني علي قناة دريم (برنامج العاشرة مساء)، سألت الإعلامية مني الشاذلي أصغر قادة ثورة 25 يناير سنا، وهو طالب في كلية التجارة من مدينة دمنهور (محافظة البحيرة) في دلتا مصر، عن السبب الذي دفعه للتواصل والتنسيق مع قادة الثورة في القاهرة والمحافظات الأخري، ومتي وكيف كانت البداية؟
قال: راودتني الفكرة قبل عامين تقريبا من قيام الثورة، حين تأملت دورة معاناة الإنسان المصري منذ الميلاد وحتي الوفاة، وعندما تخيلت نفسي داخل هذه الدورة، قررت أن أفعل شيئا ايجابيا لا لشخصي فقط وإنما لجيلي كله... فالمصري يولد وسط المعاناة ويتعلم بالمعاناة ثم يعاني ليجد عملا ثم يتزوج بالمعاناة ويموت بسبب المعاناة !...
ذكرني هذا الكلام بنكتة مصرية خالصة، تحكي عن شخص يدعي "حسن جبر" هاجر إلي الغرب بحثا عن حياة أفضل، وفي أحد الأيام ساقته أقدامه إلي حديقة غناء، أكتشف أنها "قبور" للأموات في هذه البلدة، لكن ما أثار انتباهه ودفعه إلي التساؤل، الصيغ المكتوبة علي شاهد كل قبر، فقد كتب علي القبر الأول: هنا يرقد العامل فلان ولد عام 1900 ومات عام 1970 وعاش عشر سنوات، وكتب علي القبر الثاني: هنا يرقد المهندس علان ولد عام 1940 ومات عام 2000 وعاش سنتين ونصف، وهكذا.... بقية القبور.
وقد فسر له الحارس هذا اللغز بقوله: أن الأول لم يعش سعيدا إلا عشر سنوات فقط، والثاني لم يذق طعم السعادة في حياته إلا سنتين ونصف السنة فقط.. فأومأ حسن جبر برأسه وترجي الحارس بإلحاح أن يكتب علي شاهد قبره بعد موته، ما يلي: هنا يرقد حسن جبر.. من بطن أمه للقبر!
ناعومكن وماركس
هذا الشاب النابه الذي أبكي المصريين وأضحكهم وهم يشاهدونه، ينتمي الي الطبقة الوسطي المصرية التي ظن البعض أنها تآكلت، وهو نموذج لجيل كامل بين 18 – 30 عاما عاش حالة من (الصراع) و(التناقض) الذي يصعب رفعه أو حله، فقد ولد وترعرع في عهد مبارك الذي تميز بالأحباط واليأس والفاسد، وآفاق عصر العولمة وثورة الاتصالات والانترنت، يقارن نفسه وأحواله باستمرار بالعالم الخارجي، يتحدث لغة ثانية تنتمي الي نظام فكري مختلف، بينما هو يتنفس أبخرة سامة في داخل وطنه، يتفاعل مع الشباب الهندي والصيني والفرنسي والأمريكي، باعتبارهم ينتمون الي (جيل واحد) و(عالم واحد)، لكنه لا يجد من يسمع له في المنزل والجامعة ومؤسسات الدولة المختلفة.
ثورة 25 يناير في مصر، حسب المستشرق الروسي المعروف فيتالي ناعومكن: أثبتت – للمرة الأولي في عصر العولمة – أن الثوراتِ لا تحدث في الأوساط التي ينتشر فيها الفقر والجوع والأمية بل حيث يتواجد الشبابُ المتعلم الناضج، الذي يقترب كثيرا بثقافته ونمط تفكيره من الثقافة الغربية. لأن الشباب المتعلم يريد أن يحصل على نصيب عادلٍ من الحياة، وعندما يتضح له أن كلَّ ما بذله من جهدٍ فكريٍّ ووقتٍ في التحصيل العلمي لا يضمن له حياة كريمة، يُـصاب بالإحباط، ويبدأ في البحث عن وسائل تحقيق العدالة حتي يستعيد التوازن المفقود.
ناعومكن قدم طرحا جديدا يتجاوز " ماركس " والماركسيين الجدد، حين أشار إلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية زادت من تفاقم الوضع وندرة فرص العمل في جميع دول الشرق الأوسط تقريبا، وهذا الأمر مثل النقطة الحرجة للانحدار، حيث اندفع الشباب إلى الشارع، والتحقت به جموع الشعب بمختلف طوائفه وفئاته، التي كانت تكظم غيظها وحنقها على أوضاعها منذ سنوات..
ملامح شرق أوسط جديد
هذا التفسير الجديد يجيب - برأينا - عن السؤال المحوري الذي يتكرر منذ الثورة الفرنسية عام 1789، وهو ما الذي يميز بين الانتفاضات المتفرقة المتلاحقة والثورة بالمعني العلمي - التاريخي، وهو سؤال يعاد طرحه علي نطاق واسع في الشرق الأوسط اليوم: ما الذي جعل من ثورة الشباب يوم 25 يناير في مصر ثورة ناجحة، بينما ظلت المظاهرات والاعتصامات التي تطالب بمطالب فئوية واجتماعية منذ خمس سنوات، أو ظهور حركة مثل " كفاية " التي تخصصت فى المطالب السياسية، مجرد حركات مبتسرة لم يلتف حولها الشعب المصرى كله.
أزعم أن الإجابة عن هذا السؤال لن تكتمل إلا بالنظر إلي الوجه الآخر للثورة، فقد ساهم مبارك نفسه – دون وعي بالتأكيد - في " نجاح " ثورة 25 يناير، عن طريق تصعيد مطالب هؤلاء الشباب الي الحد الأقصي واصرارهم علي رحيله، فقد رفعوا في البداية شعارا بسيطا، هو: تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية، وأثبت مبارك بصلافته أنـه الأكثَـرَ مكابرةً من كلِّ الدكتاتوريين في العالم، وهكذا بدا المشهد أمام الأقمار الصناعية: تحركات جماعية سريعة رشيقة في مقابل نظام هرم مترهل إلي حد الشلل، توافق ديمقراطي مرن في مجابهة سلطة مستبدة جامدة.
هذا المشهد في الواقع رسم ملامح شرق أوسط جديد، بانهيار حائط " برلين " العربي - الإسلامي، وميلاد نموذج ديمقراطي تعددي جديد، يحسم " الصراع " بين القديم والجديد، ويرفع " التناقض " بإتجاه الدولة المدنية الدستورية العلمانية الخالصة، وهذا المستقبل الذي لاح في الأفق أصاب معظم قادة المنطقة بالخرس الطويل، وعندما راحت السكرة وجاءت الفكرة، انطبق عليهم المثل المصري: سكت دهرا ونطق كفرا !
تري عزيزي القارئ... لو عاش حسن جبر، بعد ثورة 25 يناير 2011، ماذا كان سيكتب علي شاهد قبره؟