البشاشة
رأيت أن أحدثكم عن البشاشة. لأن البشاشة تصلح أن تكون بداية لأمور كثيرة.
فمثلاً. كل إنسان يحب أن يحتفل في بشاشة بعام جديد
في حياته. ويسميه عيد ميلاده. وبنفس البشاشة يحتفل بعيد زواجه. وبعيد حصوله علي درجة علمية عالية.
وبالبشاشة أيضاً نحتفل بأي عيد ديني. أو أي عيد وطني. أو أية مناسبة شعبية بهيجة.
ذلك لأن البشاشة علامة علي الفرح. وهي دليل علي السلام الداخلي. وكلنا يحب الفرح والسلام.
الشخص البشوش يسعد الناس ببشاشته. ويشركهم معه في فرحه. وهم يستبشرون به. وينقلهم إلي نفس مشاعر البهجة التي له.
إنه يشيع السلام حواليه. ويبعث الطمأنينة في قلوب الآخرين. البشاشة تشع من نظرات عينيه. ومن ابتسامته ومن ملامح وجهه. ومن أسلوب حديثه. إنه نفس مستريحة من الداخل. وقادرة علي إراحة غيرهم. تشعرهم أنه لا يوجد سبب يدعو إلي الكآبة. بل هناك الفرح علي الرغم من كل شيء.
أما الكآبة والتعب وفقدان السلام. فهي دلائل علي ضعف الإيمان داخل القلب. لأن قلب المؤمن مهما أحاطت به المتاعب. ففي داخله أمل ورجاء في أن كل الأمور ستؤول أخيراً إلي الخير. لذلك فإنه يكون باستمرار بشوشاً.
***
إن لم يجعله الواقع سعيداً. فإنه يعيش سعيداً في الأحلام في الخيال. ولا يكون خلاله وهماً. إنما حقيقة مبنية علي الإيمان بأن الله يرعي خليفته. وإنه لابد سيأتي ليحل له كل إشكالاته. مهما خيّل إليه أنه قد أبطأ في معونته!! كلا. إن وعود الله صادقة. ولابد سيأتي. وهذا يدعو إلي البشاشة.
لذلك فإن البشوش هو إنسان مؤمن بالمعونة الإلهية. لا يشك فيها إطلاقاً. بل يقول للرب كما قال داود النبي في المزمور "اذكر لي كلامك الذي جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي".
***
إنما يكسر دائرتها. ويفتح له باباً ليخرج منها.
إنه لا يحكّم عقله فقط. إنما يحكّم إيمانه بالأكثر. فهو لا يحكم علي الأمور بتفكيره الخاص. إنما يحكم عليها في ظل الإيمان بأن الله يحب البشر. وهو دائماً يصنع الخير معهم. ويقول لنفسه: لابد أن الله يعمل خيراً. فإن كنت أنا لا أري هذا الخير. فقد يكون هذا مجرد قصور أو عجز في نظري.
والإنسان البشوش حتي لو حاربته الأحزان من كل جانب. يقول لنفسه: وما ذنب الناس في أن يروني عابس الوجه. فيحزنوا؟!
لذلك فهو في نبل نفسه: إن أدركه الحزن. يحتفظ به لذاته وحده ويقدم بشاشته للآخرين. يشرك الناس في أفراحه فقط. ولا يشركهم في شيء من الحزن.
***
البشوش لا يقع في الحصار النفسي. ولا تكون نفسه عدوة له في الداخل. عقل البشوش يكون صديقاً له. ودائماً يريحه. أما الكئيب فعقله يكون ألدّ أعدائه. لأنه يصور له متاعب لا وجود لها. ودائماً يضخم له الشر. ويغلق أمامه أبواب الحلول!
إن أراد أن يخرج من بيته. يقول له: الأسد في الطريق!
***
الإنسان البشوش يحب أن يكون جميع الناس بشوشين مثله.
لذلك فهو يحاول دائما أن ينسيهم أحزانهم. ويبعث فيهم الاطمئنان. ويبحث عن حلول لمشاكلهم. ويعطيهم تحليلاً مريحاً لكل الضيقات. ووجهاً مريحاً لكل المتاعب. يجلب البهجة لهم مهما حدث.
إنه يخفف من قدر المتاعب. ولا يحسب لها ثقلاً. بعكس الكئيب الذي يضخّم من حجمها ويكبّرها.
البشوش في كل مشكلة تحل به أو بغيره. يذكر قول الرب:
"تعالوا إليّ ياجميع المتعبين والثقيلي الأحمال. وأنا أريحكم"
الكئيب يحمل همومه بنفسه. ويتألم بها. ويشكو منها أمام الناس. أما البشوش فيتركها إلي الله يحلّها له.
***
فهو ليس فقط بشوشاً من الخارج في مظهره. بل البشاشة تملك أعماق قلبه وفكره. وتنبع من داخله. فلا يحمل هماً.
إذا أخطأ: بدلاً من أن يفقد بشاشته. فإنه يعمل علي إصلاح الخطأ.
وحينئذ يعيش في سلام داخلي. وفي سلام مع الله.
كثيرون إذا وقعوا في خطأ أو في مشكلة. فرد الفعل الطبيعي عندهم هو الكآبة. ولكن الكآبة ليست حلا عمليا للمشاكل. أما الشخص البشوش فإنه يبحث عن الحل العملي الذي يتخلص به من المشكلة. وينقذه من الكآبة.
فإن وجد الحل. تزول المشكلة. ويملكه الفرح.
أما الكئيب. فإن المشكلة تستولي علي كيانه كله. وبالأكثر عقله ومشاعره فيظل يفكر في المشكلة وأعماقها وأبعادها. وكيف حدثت. وما يتوقعه من نتائج سوداء لها. فيزداد كآبة. ولا يفكر مطلقا في حلها. وإن فكر في الحل يستصعبه. ويضع أمامه العقبات. أو يتخيل أنه لا حل أو ان الكآبة تشل تفكيره. فلا يبصر الحل وهو موجود وهكذا يستمر في كآبته. بل تزداد هذه الكآبة. ولا يستطيع ان يكون بشوشا.
***
أما الكئيب فلا يستطيع أن ينسي مشكلته. إنها قائمة دائما أمام عينيه. تتعبه وتزعجه. وكلما فكر فيها. أرهقت أعصابه. وأتعبت نفسيته. وربما يعرض نفسه علي أطباء نفسانيين. فيعطونه منوما لكي ينام. ولا يعود يفكر في مشكلته. أو قد يعطونه مهدئات ومسكنات. لكي تستريح أعصابه. وكلها علاجات من الخارج. بينما الداخل في تعب.
حسنا ان البشوش يعطي فرصة لنفسه. يعمل فيها الله.. إن اتعبته مشكلة. وعجز تفكيره عن حلها. يصلي. واثقا أن الله يتدخل ويعمل علي ايجاد حل. وما دام الله سيتدخل. ويصبح الأمر في يديه. إذن فلا داعي للقلق والاضطراب.
البشوش يجعل الله بينه وبين المشكلة. فتختفي المشكلة وراء الله.
أما الكئيب فيضع المشكلة بينه وبين الله. فلا يري الله وهو يعمل!
ايضا البشوش لا يعطي للمتاعب وزنا أكثر من وزنها الطبيعي.
***
وبطبيعة نفسه لا يتضايق إلا من الأمور التي هي فوق طاقة الاحتمال. وأتذكر أنني قلت مرة في هذا المجال:
لقد سميت الضيقة ضيقة. لأن القلب قد ضاق عن احتمالها.
أما القلب الواسع. فإنه لا يضيق أمام كل مشكلة. بل يتسع لها ويستوعبها فيحتملها. ولا تفقده بشاشته.
إن قطعة من الطين يمكنها أن تعكر كوبا من الماء أو اناء منزليا ولكنها لا تستطيع أن تعكر البحر أو النهر. الذي يتقبلها ويفرشها في اعماقه. ويقدم لك ماء رائقا.
إذن العيب هو فينا أولا: هل قلوبنا متسعة أم ضيقة؟
الانسان البشوش له قلب واسع. لذلك فهو لا يتضايق لأي سبب. ولا يفقد بشاشته بسبب ما يسميه غيره ضيقة.
***
كذلك قد يفقد الانسان بشاشته. بسبب عدم الاكتفاء
أقصد عدم الاكتفاء بما عنده والتطلع باستمرار إلي طموحات عالية ربما لا تكون سهلة المنال. أو ربما إذا وصل إلي بعضها لا يكتفي وإنما يطلب المزيد. فإن لم ينله يحزن ويكتئب.
من أجل هذا. فالإنسان القنوع الراضي بما قسم الله له. يكون دائما بشوشا سعيدا. شاكرا لله علي ما هو فيه.
عكس ذلك. الطامع في منصب كبير. أو في مستوي مالي مرتفع. قد يفقد روح الفرح أو البشاشة. لأن آماله في العلو أو الترقي لم تتحقق. أو وجد له منافسين نالوا ما كان يود أن يناله هو.
ما أعجب أن كبار الأغنياء قد لا يحيون في البشاشة التي يعيشها عامة الناس. ذلك لأنهم مهما ازداد غناهم. يريدون ما هو اكثر واكثر.. وقد لا يتحقق ذلك. فيفقدون البشاشة.
وقد يتحقق كل ما يريدونه من غني. ولكن ذلك يستلزم ضرائب أو مستحقات معينة للدولة لا يحبون أن يدفعوها. فيكتئبون. أو يلجأون إلي التهرب الضريبي. فيدخلون في قضايا ويتعرضون لأحكام تصدر ضدهم. وفي كل ذلك يفقدون البشاشة علي الرغم من الغني المتزايد.
***
يري البعض أن رجال الدين أو المتدينين عموما يجب أن يتصفوا بالجدية. أو بنوع من الجدية يأخذ مظهر التزمت وقد يقودهم هذا إلي لون من العبوسة. بحيث يعتبرون المرح أو البشاشة حراما.
فهم يربطون بين الجدية والعبوسة. وبين الضحك والخطيئة! وكأن الذي لا يكون عابسا. فبالضرورة يكون عابثا! أو علي الأقل يكون ساهيا عن نفسه. وغافلا عن أبديته! وناسيا لخطاياه. وبعيدا عن حياة التوبة وعن النمو الروحي!
***
فلماذا لا يكون الانسان متدينا. وفرحا وبشوشا في نفس الوقت؟
وهل معني التدين أن ينفصل الانسان عن الحياة الاجتماعية وما فيها من مرح وبهجة؟! وهل إذا ضحك المتدين. يبكته ضميره علي ذلك؟! ويري أنه قد هبط درجة في الحياة الروحية؟!
وهل الحفلات التي تتميز بالفرح تكون في مستوي هابط. مهما كان ذلك الفرح بريئا. لا تكسر فيها وصية واحدة من وصايا الله!!
وإن استطاع الكبار أن يضبطوا انفسهم من جهة اللهو والمزاح والضحك والفكاهة. فهل يستطيع ذلك الاطفال؟! بينما هو مستحيل لأن الطفل يحب أن يضحك. وإن منعناه عن الضحك ينشأ مريضا نفسيا.
أم اننا نسمح له بكل ذلك في طفولته. ونمنعه عن كل ذلك كلما يكبر. كأن مقاييس الخير أو الشر قد تغيرت تماما!
***
إن الله خلق الانسان لكي يكون سعيدا. وأسكنه في جنة.. وفي الأبدية سنكون في نعيم وفرح. فهل في الفرح خطيئة؟!
كلا. بلا شك. وإلا كره الناس التدين.
بل علي العكس. إذا رأوا المتدينين فرحين. تكسو وجوههم البشاشة. يتشجعون علي أن يحيوا حياة متدينة. بل يفرحون في تدينهم. إذ أن الله قد قادهم إلي حياة الفضيلة. وسهل طريقها أمامهم. ويفرحون إذ صارت لهم علاقة طيبة مع الله. وأصبحوا يجمعون بين التدين والبشاشة.
***
المشكلة إذن في الحالتين هي في التطرف
بمعني أن يتطرف الانسان في تدينه. فلا يضحك. ويظل عابسا.. أو يتطرف الانسان في ضحكه. فيخلط الضحك بالاستهزاء أو بالفكاهات الرديئة. أو بدلا من أن يضحك مع الناس. يضحك علي الناس. أو يحاول أن يضحكهم بما يخدش ضمائرهم.
أما البشاشة فهي وضع متوسط. يجب أن يتصف به حتي رجال الدين. فيشعر الناس أن الدين هو حياة فرح. فرح بالله وبالفضيلة.