الحق والضلال تركز الكنيسة في هذا الأحد على قصة الابن الضال، لترينا حنان الأب، وخطايا الابن وتوبته، فتلك القصة تكشف لنا عن قلب الأب المحب الشفوق، الذي يشتاق إلى رجوعنا، وترينا الأرض الضيقة حيث الجوع الروحي والظلام وعيشة الغربة عن الله، حيث ارض الخنازير، وثمار الخطية، ونلتفت في هذه القصة إلى التوبة والرجوع والخضوع للآب والتلمذة للوصايا الإلهية والشهادة لعمل نعمة المسيح ومخافة الرب وحياة القداسة حيث فرح التوبة (ينبغي أن نفرح) (لو 15: 33)، (وتفرح الملائكة) (لو 15: 7)، وحياتنا بلا توبة هي حياة خالية من الفرح. ومن اخطر ما يواجهنا إحساسنا مع الابن الضال أننا فُهماء وحكماء، لكن هل تفتخر الفأس على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردده! (اش 10: 15)، من اخطر ما يواجهنا قساوة القلب والارتباك الباطل والاستهتار، فنقول لله أعطني لأعمل جميع إرادتي، لذلك تركز الكنيسة في الأحد الثالث على (بر الآب للخطاة الراجعين الذي يفوق البر الذاتي لمن يظنون في أنفسهم إنهم أبرار)، وها عقوق الابن يقابله رحمة الآب، وبر الابن الأكبر لم يجعله يفرح بعودة أخيه الأصغر الذي لا بر له إلا بالآب. هذا المثل غنى للغاية بمعانيه، ويتضمن جوهر روحانياتنا المسيحية، فكثيرا ما نتحول عن الطريق ونمضى إلى كورة بعيدة، لقد كان الابن الأصغر المذكور في الإنجيل يعتبر الله "شيء"، وهذه هي خطيتنا، أن نصير مالكين لأنفسنا ونتحول عن الله سر الحب، ونمضى إلى الأرض حيث نحن مالكين لأنفسنا ونتحول عن الله سر الحب، ونمضى إلى الأرض حيث خداع العالم والأباطيل والغواية وتعظم المعيشة، ولكن ما أن فحص الابن الضال نفسه وجها لوجه (محاسبة النفس)، وبدأ ينظر إلى داخله، بعيدًا عن كل إغراء أو جذب، خلوا من خداع وحيلة وأصدقاء السوء، حيث ظن أن في البعد هناك الحرية، تلك التي أفقدته حياته وجعلته شريدا بلا مأوى أو دفء حتى قام وترك خلفه كل السقطات، ومضى إلى بيت أبيه وعقد النية أن يلقى بنفسه عند أقدام مراحمه، تلك الأبوة التي تكرر ذكرها خمس مرات في مثل الابن الضال. إن أول كلمة نطق بها الابن البعيد، عندما عاد "أبتاه" لقد تذكر أن حب أبيه له قد وهب له مجانًا، وإن كل حب وصلاح وبركة ونعمة ومحبة مصدرها هذا الحب الأبوي، تلك الأبوة التي أعطته الرجاء وجعلته يسرع إلى بيت أبيه (الكنيسة)، وفي هذا الاسم (اسم أبيه) يكتشف طبيعة توبته الحقيقية، لأن التوبة الحقة تمزج رؤية الإنسان لخطاياه مع ضمان الغفران، لأن مراحم الله لا تفتر، هي جديدة في كل صباح وهي من دور وإلى دور، لأنه لا يشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا- وعودة الابن الضال إلى بيته، هي عودتنا إلى بيتنا الكنيسة أمنا جميعًا، حيث تطهيرنا بسر الاعتراف (يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن ادعى لك ابنًا!! اجعلني كأحد أجرائك)، فمع التوبة والرجوع (الميطانيا) يكون الاعتراف والإقرار بالخطايا التي جاهد لنقلع عنها في سر التوبة والاعتراف، وعندئذ نأخذ عطية المغفرة.. وعندما نقترب من البيت (الكنيسة)، يرانا الآب السماوي ويقابلنا ويقبلنا، فكم من المرات وقف ينتظرنا مراقبًا عودتنا إلى بيته، ونحن عائدون ممزقون تعترينا الكآبة والفم مُحملون بماضٍ مخجل.. إنها العودة إلى الحياة بعيدًا عن الظلمة الخارجية، حيث نلبس الحُلة الأولى والخاتم في أيدينا والحذاء في أرجلنا، تلك الحُلة الأولى التي يقول الآباء إنها المعمودية التي كثيرًا ما نسلك بعكس نذرها ودعوتها، وننسى أننا قطيع صغير وأننا خميرة وأننا نور وأننا ملح وأننا سفراء وأننا رائحة المسيح الذكية. تلك العودة إلى بيت الآب السماوي بعد فترة التشرد التي فصلته عنه، جعلته يأخذ الخاتم الذي هو ختم الكفالة والضمان، يضع حذاء في رجليه حتى ينتعل "باستعداد إنجيل السلام"، وما العيد الذي تعيد إلا عيد القيامة عيد الحياة الأبدية عُرس الحمل عُرس الملكوت، فالابن البعيد رجع إلى أحضان أبيه رجع إلى بيته حيث الخلاص وملكوت المحبة، وحيث البيعة المقدسة التي تنادي البعيدين وتبحث عن الضالين، ليستيقظوا ويستنيروا ويرجعوا، فالوقت وقت مقبول وزمن خلاص، يفرح به كل راجع يأكل ويشرب من عطايا العريس، وينعم بالخلاص، وهو ما نعبر عنه في مديح هذا الأسبوع عندما نقول: (قوموا يا كهنة هيئوا الحُلة، ليلبسها ابني ويتحلى، المعمودية هي الحُلة وهي أول الخيرات، كللوا ابني بإكليل النور والبسوه خاتمًا من ذهب وفير ليكون بختم الروح مستور محروسًا من كل الزلات). واحدة هي الحلة للآخرين والأولين واحدة هي لله، وواحدة هي الحلة التي تعطي للمعتمدين داخل الماء، واحد هو الذبيح الذي تطهر به جميع الخطاة، وبخاتم واحد يختمون خزان بيت الله، واحد هو حذاء العروس التي صعدت من داخل الماء، حذاء النور الذي تدوس به الحيات، الآب المتحنن بسط مراحمه عن الخطاة. ورجوعنا إلى الآب السماوي يأتينا من واقع الرجاء واليقين والثقة، وما نعرفه عنه وما نلمسه فيه، فحتى لو فقدنا امتياز بنوتنا، هو لا يفقد شيئًا من أبوته، فمحبته الحانية هي التي تتوسط وتتوسل وتلح في أعماقنا، إن أحشاءه الأبوية هي التي تدفعه أن يتبني من جديد، ويصدر الصفح الكامل ويستر، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وبدلًا من أن يقاضي غلبت عليه أبوته وحكم على الفور بالبراءة هذا لأنه يود رجوع الابن لا هلاكه، وبدلًا من أن يعطي عقوبة يقدم قبلة، فقوة المحبة لا تقيم وزنًا للخطية، بقبلته يغفر ذنوبنا وبعواطفه الأبوية يغمرنا، هو لا يفضحنا ولا يشهر بنا، بل يضمد جروحنا تمامًا حتى لا تترك أثر أو عيب (طوبى لمن غفر إثمه وسترت خطيته) (مز32: 1). ونحن أيضًا في أحد الابن الضال (الأحد الثالث من الصوم الكبير)، علينا أن نتمتع بعفو الآب، مهما كان إفلاسنا الروحي المطلق، فلنقم مهما كانت حالتنا، ولنرجع إلى من هذه أبوته متشجعين بهذا المثال، (وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبّله) إني اسأل: أي مكان هنا لليأس؟ أو أي مجال حتى للاعتذار أو مظهر للخوف، إلا إذا كنا نعتقد عكس محبته الأبوية، ذلك الفكر المضاد لخلاصنا. لقد فتح المسيح لنا بهذا المثل باب السماء أمام الخطاة وكشف عن فرح الآب الشديد وسروره برجوعنا، وهو ما نعبر عنه في مديحة الأسبوع الثالث من الصوم: طبيب النفوس والأجساد احتضنه وفي حبه زاد عندما رجع له باستعداد انعم عليه بكل البركات وبدون البنوة لا تكون توبة ولا رجاء ولا حياة ولا رجوع ولا تمتع بأحضان الآب لذلك فالمعمودية هي بنوتنا لله وأساس توبتنا، ولذلك يعلمنا الآباء أن التوبة معمودية ثانية، وكلنا عندما نتغرب ونبعد ونذوق الخرنوب نخسر أنفسنا، ولكن مراحم الله الإلهية جديدة وهي من دور وإلى دور، هذه تعبيرات بلغة بشرية عن أمور إلهية لا توصف، لذلك نصلي (ليس شيء من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر)، فهو لا يطيق أن يرانا في ذل وعبودية، وعندما يرانا قادمين إليه في ثياب الخطية يغلب عليه تحننه وتغلبه محبته، ويقبلنا بقبلات فمه لأن حبه أطيب من الخمر، ويحتوينا في أحضانه ويلبسنا ثوبنا الأول معموديتنا الطاهرة ونقاوتنا الأولى وفكرنا البسيط، يعطينا بره كثوب ليكسونا بعد أن عرانا العالم والخطية، نخلع ثوب الخزي ونلبس ثوب الكمال لابسين المسيح، يلبسنا خاتم مسيحه لنعمل بعد للملكوت والحياة الأبدية، ولنخدم عمل الحصاد، يلبسنا خاتم القداسة لنعمل عمل الرب بقوة وبدون رخاوة، خاتم الخطبة والملكية عوض المسمار الذي في يد المسيح، كم هو ثمين هذا الخاتم، الذي ما هو إلا كلمة الله، أما أرجلنا التي أدمتها أشراك الخطية فقد لبست استعداد إنجيل السلام بعد أن صارت مغسولة بيد المسيح إلهنا، فلا تعرج في السير بل تبقى محفوظة من الزلل، ويا لفرحة السماء، ويا لوليمة الآب (الذبيحة) ذبيحة الفرح وطعام الحياة الأبدية، التي بها نُفرح قلب الآب بتوبتنا وبرجوعنا، بعد ذل الكورة البعيدة، نتمتع بأحضان الآب وذبيحة ابنه يسوع وفرح السمائيين الغير موصوف..