رسائل القديس أنطونيوس
الرسالة الثالثة
1ـ أنطونيوس يهدى السلام إلى أولاده الأحباء المقيمين بالفيوم وأعمالها وجميع من يتبعهم، وكل الذين يتقدمون للرب بكل قلوبهم.
سلامى لكم بأجمعكم من صغيركم إلى كبيركم، رجلاً كان أم إمرأة، الذين أنتم ابلحقيقة إسرائيليون.
إنكم قد نلتم الطوبى المغبوطة بحلول النعمة فيكم. لكن ينبغى لكم أن لا تتوانوا فى الحرب من أجل الرب، الذى افتقدكم مشرقاً من العلاء حتى تصيروا له ذبيحة طاهرة مقدسة.
2ـ إننا نعلم كيف سقطت الطبيعة الجوهرية من علوها إلى قعر الفضيحة والذلة، وكيف افتقدها الإله الرحوم بناموسه، على يدى موسى والأنبياء. وفى الآخر كان ذلك بابنه الوحيد، الذى هو رئيس أحبارنا العظيم وطبيبنا الحقيقى الذى يمكنه شفاء أوجاعنا. فاتخذ جسدنا وأسلم ذاته عنا وعن خطايانا.
3ـ فهو من أجل جهلنا، اتخذ شكل الجهل، ومن أجل ضعفنا أخذ شكل الضعف، ومن أجل مسكنتنا أخذ شكل المسكنة، ومن أجل موتنا ذاق الموت. هذه كلها صبر عليها من أجلنا. لذلك يجب علينا أن نجاهد. بمقتضى الجهاد، لكى يُسر بنا جميع القديسين الذين يطلبون عنا فى وقت توانينا، ويفرح الزارع والحاصد معاً.
4ـ ويجب عليكم، يا أولادى الأحباء، أن تعلموا ما أنا فيه من الألم العظيم بسببكم؛ لأنى أنظر إلى أتعاب القديسين عنكم، وتنهدهم وطلبتهم التى يقدمونها لأجلكم كل حين أمام الله. فاحرصوا أن تماثلوهم؛ لأنهم نظروا فى تدابير خالقهم بتجسده العجيب وأتعابه لخلاصنا، وأيضاً فى غباوة العدو الذى يطلب كل حين هلاكنا فى الجحيم، الذى هو نصيبه مع جنده، لأنهم دائماً يطلبون بهذا الهلاك العظيم.
فأطلب إليكم يا أولادى الأحباء، أن تفهموا هذا وتنظروا فى تدابير خالقنا وافتقاده لنا بالبشارة الظاهرة والخفية. لأننا إذ كنا نحن المدعويين ناطقين (أى عاقلين)، صرنا كغير الناطقين، لميلنا مع هوى العدو وصانع الشر وأب الكذب.
وأريدكم أن تعلموا كم هى ربوات الملائكة، وكم هى ربوات صنائع الشياطين، وأنواعها التى لا تُحصى. إنهم لما علموا أننا قد علمنا بأوجاعنا وفضيحتنا، وأننا نجتهد فى الهروب من أعمالهم الرديئة العاملة فينا، وليس هذا فقط، بل ولا نسمع لمشوراتهم الشريرة التى يلقونعا فينا، أخذوا يعملون أعمالهم بهزء. وهم يعلمون أن موهبة خالقهم صارت لهم هنا موتاً، وقد قُضى عليهم أن يُبعدوا ويصيروا ميراثاً للجحيم من أجل غفلتهم وكثرة خبثهم.
5ـ ولأجل هذا يا أولادى الأحباء، لست أمل من الطلبة عنكم فى الليل والنهار، لكى يفتح الرب أعين قلوبكم لتنظروا كثرة وعظم مكر الشياطين وشرهم الذى يجلبونه علينا كل يوم، وأن يعطيكم قلباً مستيقظاً وروح إفراز، لكى تستطيعوا أن ترفعوا ذواتكم لله ذبيحة حية مقدسة، وتتحرزوا من حسد الشياطين لكم فى كل الأوقات، ومن كل مشوراتهم الردئية، ومضاداتهم الخفية وشرهم المستور، وأرواحهم المضلة وأفكار تجديفهم، وكل ما يقولونه فينا فى كل وقت من ضعف الإيمان وسهو القلب، والاضطرابات الدقيقة التى يأتون بها كل يوم مع حزن القلب، وغضبهم ونميمتهم التى يلقونها فينا لكى ينم بعضنا على بعض، ونزكى ذواتنا وحدنا وندين غيرنا، ويشتم بعضنا بعضاً، ونتكلم بلسان حلو والمرارة فى قلوبنا، وندين الظاهر من غيرنا بينما اللص داخل ذواتنا، ونحارب ونقاوم بعضنا بعضاً لنقيم كلمتنا ونظهر مكرمين. كذلك هم يدفعوننا إلى أعمال أخرى لا نقوى عليها ويصرفوننا عما هو لفائدتنا. وهكذا تجدهم يُضحكوننا وقت البكاء ويُبكوننا فى وقت الفرح؛ وهم فى كل حين يقصدون إحادتنا عن الطريق المستقيم، لكى يستعبدونا بطغيانهم. وليس لى الآن وقت لكى أتكلم عن بقية شرورهم واحدة فواحدة؛ غير إننى أقول إنه إذا امتلأت قلوبنا من مثل هذه الشرور، تصير لنا كالطعام، حينئذ يعظم الشر فينا ويتأصل، وتكون لنا عقوبة رديئة.
فلهذا يجب علينا أن لا نمل من الطلبة إلى صلاح الآب، لتأتى معونته وتعضدنا فى جميع أعمالنا. لأن هذه الشرور المتعددة هى كائنة (وتقود) إلى هلاكنا، وبيتنا مملوء حرباً.
6ـ وأنا أقول لكم يا أولادى الأحباء، إن كل إنسان يتلذذ بأفكاره فهو يسقط بإرادته، لأنه يفرح بما يُلقى فيه من تلك الأشياء، ويظنها أسراراً عظيمة، ويزكى ذاته وحده فيما يصنعه، ويكون مسكناً للروح الشرير الذى يشير عليه بالشر، ويمتلئ جسده من الأسرار المرذولة الخفية. فالذى يكون هكذا، فإن أوجاع الشياطين تملكه طالما أنه لم يُلقهم عنه.
فيجب علينا أن نعرف فخاخ الشياطين وحيلهم ونحيد عنها ونهرب منها. لأن الآثام والخطايا التى من الشياطين ليست ظاهرة ولا جسدانية؛ لأن ليست لهم أجساد حتى يروا، لكى نصير نحن أجساداً لهم حين تقبل نفوسنا منهم أفكار الظلمة. وعند قبولها منهم يصيرونها ظاهرة فى الجسد.
فاحرصوا يا أولادى الأحباء، أن لا تجعلوا لهم فيكم موضعاً، لئلا يأتى غضب الرب علينا، فيفرحون ويستهزءون بنا وينصرفون. فلا تطرحوا عنكم كلامى؛ فإنهم يعلمون أن حياتنا هى من بعضنا بعض. لأن من هو الذى رأى الله قط فأمسكه لئلا يبعد عنه ويفرح ويخلصه من مضادة هذا الجسد الثقيل؟ أو رأى الشيطان جسدياً واقفاً قبالته فيهرب منه؟ بل إن الشياطين كائنون فى الخفاء، ونحن نُظهرهم بأعمالنا.
7ـ وجميع هؤلاء هم جوهر واحد عقلى، لكنهم لما بعدوا من الله صارت لهم هذه الأسماء المختلفة من أجل أعمالهم المتباينة، وثبتت عليهم كثرتها لكثرة شرورهم. وهذه الأسماء هى: شياطين، أبالسة، جن أرواح شريرة، أنجاس، كفرة، أراخنة هذا العالم المظلم، وأسماء أخرى كثيرة مثل هذه.
أما القوات السمائية فأسماؤهم: رؤساء (ملائكة)، ملائكة، كراسى، أرباب، سلاطين، شاروبيم، ساروفيم. وقد ثبتت لهم هذه الأسماء لأنهم حفظوا إرادة خالقهم.
أما الذين أبغضوا ثقل هذا الجسد الذى نحن لا بسوه، وقد طرحوه عنهم، فمنهم قوم دُعوا رؤساء آباء، وبعض أنبياء، ثم ملوكاً وكهنة وحكاماً ورسلاً. وهذه الأسماء صارت لهم، رجالاً كانوا أم نساء، من أجل أعمالهم المختلفة، وميلهم إلى الخير، وأسباب أخرى كثيرة مثل هذه. إلا أنهم جميعاً من مبدأ واحد وجوهر واحد. ولأجل هذا فمن يخطئ إلى قريبه فإنما يخطئ إلى ذاته، وكل من يصنع شراً بقريبه أو من يساويه فى الحال، فإنما يصنعه بذات نفسه.
فمن هو الذى استطاع أن يوصِّـل إلى الله تعباً أو راحة، أو يخدمه كما ينبغى، أو يسبحه كما يجب له، أو يكرمه حق كرامته، أو يرفعه كاستحقاقه؟ فهذا ليس بمقدورنا بسبب ثقل أوجاع هذا الجسد علينا. فينبغى لنا، إذ قد علمنا هذا، أن ننبه الله الساكن فينا بأعمالنا وسرورنا وتراؤفنا على بعضنا البعض؛ ولا نحب ذواتنا وحدها حتى لا نصير من نصيب الشرير. بل لنعرف ذواتنا؛ لأن من يعرف ذاته فهو يعرف أيضاً كل المخلوقات التى ابتدعها الله من العدم إلى الوجود. ويعرف أن الطبيعة العقلية الباقية هى مخفية فى هذا الجسد الذى ينحل، لتُرى أفعالها فيه وبه. والذى عرف هذا يستطيع أن يحب الله وحده؛ والذى يحب الرب يحب الكل.
8ـ فيا أولادى الأحباء، لا تكلوا ولا تملوا من المحبة بعضكم لبعض، بل اجعلوا هذا الجسد الذى أنتم لابسوه مجمرة ترفعون فيها جميع أفكاركم ومشوراتكم الردئية وتضعونها أمام الرب ليرفع قلوبكم إليه. اطلبوا منه بكل قوة العقل أن ينعم عليكم بإتيان ناره غير الهيولانية من العلاء إليكم، لتحرق كل ما فى تلك المجمرة وتطهرها. فيخاف كهنة البعل المضادون ويهربون من أمامكم كهروبهم أمام إيليا النبى (1مل18: 38ـ 40)، وحينئذ تنظرون أثر إنسان طالعاً بالماء من الينبوع الإلهى ويمطر لكم المطر الروحانى الذى لروح البارقليط. فإذا نلتم، يا أولادى، هذه المواهب الفاضلة، لا تظنوا أنها من أعمالكم، بل هى قوة مقدسة مشتركة معكم فى جميع أعمالكم.
فأنا أطلب إليكم أن تجتهدوا وتداوموا على أعمالكم الحسنة، ليسر بكم كافة القديسين وروحى أنا المسكين، لأننا جميعاً مخلوقون من مبدأ واحد وجوهر واحد عقلى غير مرئى.
9ـ فمن عرف ذاته يعلم أنه جوهر لا يموت، وأن ربنا يسوع المسيح هو العقل الحقيقى الذى للآب، الذى منه تحقيق جميع الطبيعة الناطقة التى خُلقت كشبه صورته. لأنه هو رأس الجسد ورأس الكنيسة، كما يقول الرسول بولس (كو1: 18)؛ ولهذا نحن جميعاً أعضاء بعضنا بعض، وجسد واحد للمسيح (1كو12: 27). "فلا تستطيع الرأس أن تقول للرجلين: لا حاجة لى بكما، بل إذا تألم عضو واحد، فجميع الأعضاء تتألم معه" (1كو12: 21، 26)، كما قال الرسول أيضاً: فلأجل هذا يجب علينا بالأكثر أن نحفظ محبة بعضنا بعض. فالذى يحب أخاه يحب الله (1يو1: 24)، والذى يحب الله يحب نفسه، كما يقول الرسول يوحنا.
10ـ إننى أطلب إليكم، يا أولادى الأحباء، أن تعلموا أيضاً أننا قد خُلقنا ذوى سلطة على ذواتنا، من أجل ذلك تضادنا أرواح الخبث المحيطة بنا. لكن اعلموا ما (هو) مكتوب فى المزمور: "ملاك الرب يعسكر حول اتقيائه، ومن جميع أحزانهم يخلصهم" (مز33: 8).
11ـ وأريد أيضاً أن تعلموا أن كل الذين ابتعدوا عن الفضيلة، قد كمل فيهم غش الشياطين وتم عليهم المكتوب أنهم بنون لإبليس. لأن الشيطان سقط من رتبته السمائية لأجل كبريائه، وصار دائماً يريد أن يُسقط كل الذين يتقدمون للرب بكل قلوبهم بهذه الصفة التى سقط هو بها، أى العظمة ومحبة المجد الباطل. وبهما صارت الشياطين تحاربنا، وتظن أنها تفرقنا من الله بهما وبغيرهما. ولأنهم يعلمون أيضاً أن كل من يحب أخاه فهو يحب الله، فلعداوتهم للفضيلة وجنونهم، يُلقون فى قلوبنا أن نبغض بعضنا بعضاً، حتى الواحد منا لا يشتهى أن ينظر أخاه أو يكلمه كلمة واحدة.
لأجل ذلك، يا أولادى الأحباء، أنا أُعلمكم أن كثيرين بالحقيقة قد تعبوا فى الفضيلة غاية التعب، ولعدم إفرازهم قتلوا أنفسهم. وأنا عارف أن هذا ليس بعجيب، لأنكم إن تكاسلتم عن العمل قبل إحكامكم الفضائل فى ذواتكم، تسقطون فى هذا المرض الشيطانى الذى هو عدم الإفراز. وتظنون أنكم قد اقتربتم من الله وحصلتم على النور، بينما أنتم حقاً فى الظلمة كائنون.
فيا أولادى الأحباء، ما الذى أحوج ربنا يسوع المسيح حتى شد وسطه بمنديل وتعرى وصب ماء فى مغسلة وغسل أرجل الذين هم دونه (يو13: 4، 5)، إلا أنه أراد أن يعلمنا الاتضاع، فأظهره لنا بهذا المثال الذى صنعه؟
فكل الذين يريدون الرجوع إلى رتبتهم الأولى لا يمكنهم ذلك إلا بالاتضاع. لأنه من البدء كانت حركة الكبرياء هى التى أسقطت (صاحبها) من السماء. فإذا لم يكن فى الإنسان الاتضاع الكثير بكل القلب، وبكل النية، وبكل الروح، وبكل النفس، وبكل الجسد، فلا يرث ملكوت الله كما هو مكتوب (1كو6: 10، غلا5: 21، أف5: 5).
12ـ بالحقيقة، يا أولادى الأحباء بالرب، إننى أطلب ليلاً ونهاراً من خالقى، الذى روحى بيده، أن يُنير عيون قلوبكم لتعلموا أولاً محبتى لكم، وبعد ذلك تنظرون خزيكم وتعرفونه. لأن من عرف خزيه فذاك هو الذى يطلب المجد المختار الحقيقى، والذى عرف موته عرف حياته الأبدية.
وإننى أخاف عليكم، يا أولادى الأحباء، أن يُدرككم الغلاء والفقر فى الطريق المؤدية إلى الموضع الذى يمكنكم أن تنالوا فيه الغنى.
إننى أشتهى أن أنظركم ههنا بالجسد، لكنى أنتظر بالأحرى ذلك الدهر الذى ليس فيه حزن ولا كآبة ولا تنهد، بل سرور وفرح لمستحقيه جميعاً، وأن نجتمع هناك عن قريب وأراكم.
وبعد، فإن لى كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكن ليس هذا وقته، بل بالأحرى الآن وقت أهديكم فيه كل واحد باسمه، يا أولادى الأحباء، السلام بالرب الذى له التسبيح من الآن وإلى الأبد. آمين