لماذا اختفت الشرطة؟
احمد المهنا
GMT 7:58:00 2011 الأحد 30 يناير
وظيفة رجال الشرطة والمباحث في مصر هي حماية النظام الحاكم، وفقط النظام الحاكم لا غير. هذه حقيقة مسحت عنها انتفاضة الشعب المصري كل غبار. وهي حقيقة تكشف الوضع المقلوب. ان حماية ارواح الناس والممتلكات هي وظيفة القوات الامنية في كل مكان، الا في هذا الجزء من العالم، اذ تبدو هذه المهمة هنا ثانوية، بل غير ممكنة في الاساس الا في حالة واحدة هي انسجام مهمة حماية ارواح الناس وممتلكاتهم مع أمن النظام الحاكم.
ان امن النظام الحاكم هو سدى العمل ولحمته. فلما ظهر ان هدف التظاهرات اطاحة النظام الحاكم وقع تعارض تام بين المحتجين وبين حماة النظام، تصدى رجال الشرطة والأمن الى المتظاهرين بعنف، وتصاعد هذا العنف احيانا الى اطلاق رصاص حي حصد ارواح العشرات، وربما المئات. كانت هذه هي المرحلة الاولى. المرحلة التالية التي ظهرت مفاعيلها في نحو السادسة من مساء "جمعة الغضب" شهدت مفاجأة اذهلت العالم. وتلك هي اختفاء رجال الشرطة والمباحث اختفاء تاما من كافة انحاء القاهرة والاسكندرية والسويس ثم تباعا في بقية المدن.
ما تفسير هذا الاختفاء؟
هناك ثلاثة تفسيرات اولها، واضعفها، ان يكون الاختفاء تم بطلب من الجيش بعد اتخاذ القرار بنزوله الى الشارع، بناء على فلسفة من نوع منع قيام القوتين بمهمة واحدة في آن واحد، لمنع الاحتكاك بين القوات المسلحة وبين القوات الامنية. لكن مثل هذه السبب غير معقول، اذ يمكن ببساطة تقسيم مهمة فرض الاستقرار بين الجانبين من دون اي احتكاك، فتتولى القوات المسلحة حماية الممتلكات الحيوية العامة، وتتولى الشرطة والمباحث حماية الارواح والممتلكات الخاصة. وممتلكات الدولة توجد عادة في الشوارع الرئيسية، بينما الارواح والممتلكات الخاصة تقع غالبا في الشوارع الفرعية والاحياء والأزقة.
التفسير الثاني هو هروب الشرطة والمباحث من الجماهير الغاضبة. فقد تحرر المتظاهرون من الخوف، واكتشفوا قوتهم وهي فوق العادة غالبا في لحظات كسر حاجز الخوف، فاستخدموا هذه القوة في مطاردة الشرطة وملاحقتها في الشوارع وفي مراكز عملها، حتى اضطروها الى الهروب والاختفاء. ومعروف ان العلاقة بين الجانبين على اسوأ ما يكون، فالشرطة والمباحث في هذا البلد هي اداة اذلال الشعب وحماية احد اكثر الانظمة فسادا على وجه الارض.
التفسير الاخير الذي رجحه كثيرون هو ان الاختفاء جاء وفق نظرية المؤامرة: السلطة امرت به لاحداث فراغ امني يفتح المجال امام الفوضى وانتشار اعمال السلب والنهب، تمهيدا لمقايضة النظام مقابل الأمن، او عودة الشرطة والمباحث مقابل انهاء الفوضى وعودة الاستقرار. ولعل قيام اي نظام بمثل هذه الخطوة، وفي ظل تسارع الاحتجاج وتنامي حجومه، يعد مغامرة لا يمكن ضمان نتائجها بحال من الأحوال.
ان " مؤامرة الاختفاء" تفسير خيالي. لكن الا يبدو هروب الشرطة المصرية امام المتظاهرين امرا خياليا هو الآخر؟ ساعات طويلة من ليل الجمعة وطوال اليوم التالي والسؤال يدور في العالم: اين رجال الشرطة والمباحث؟ وقد اسهم تعطيل السلطة شبكات الاتصال من الهاتف النقال الى الانترنت في التعتيم على حقيقة ما جرى للشرطة ولمباحث الأمن ومراكزهما.
ولكن في الحالين، الاختفاء هروبا او تآمرا، هناك حقيقة واحدة، وهي ان شرطة ومباحث هذه البلاد ليست مؤتمنة من ابناء الشعب، ولا موضع ثقته. انها قوة مكروهة، ومحسوبة على النظام الذي دخل شعب مصر في طور الثورة عليه. قوة وظيفتها حماية أمن النظام الحاكم في المقام الأول، بينما ترهن توليها دورها المتعلق بحماية الشعب بمقدار طاعته وخضوعه.
وهذه الطاعة ليست هي الطاعة الطبيعية للقانون، ولا الخضوع الواجب لنظام مشروع، بل هي الامتثال المفروض لنظام تسلطي، بلغ به الفساد درجة الكمال، بالخصوص مع نهجه الذي كان سائرا نحو ارساء "جمهورية وراثية": انظروا التناقض المرعب حقا في هذا التعبير. كيف يمكن ان تكون هناك " جمهورية"، اي دولة تستمد سلطتها من الجمهور، من الشعب، بينما ينصب عليها رئيس بالوراثة؟
ويبدو ان انتفاضة مصر حلت هذا التناقض بانهاء سيرة الجمهورية الوراثية في العالم العربي، فقبل ان يتضح هذا في مصر نفسها، قبل اعلان تعيين اللواء عمر سليمان نائبا للرئيس، صرح الرئيس عبد الله صالح بانه لا وراثة ولا رئاسة ابدية في اليمن.
وعلى اي حال فان قوة الناس ان لم تكن قد تسببت بهروب الشرطة فانها سرعان ما ظهرت في قيامها بتنظيم نفسها على هيئة لجان وتجمعات امام المحال التجارية وامام العمارات وفي الاحياء والأزقة لحماية الأنفس والممتلكات من اعمال النهب والسلب. ولم يتأخر الناس عن القيام بهذه المهمة الا بضع ساعات، ساعات كانت باهظة الثمن من دون شك، ولكن تداركها ربما سيعوض مصر والعالم العربي كله بما لا يقدر بثمن، وذلك هو سقوط التهديد بفرضية الفراغ الأمني، وهي الفزاعة التي تهدد بها النظم العربية شعوبها، الى جانب فزاعة الاسلام السياسي.
ولعل المفارقة العجيبة هي ان الفزاعتين وجدتا ترجمة لهما في نتائج الغزو الاميركي للعراق. لكن يبدو ان انتفاضتي تونس ومصر في طريقهما لاسقاط التهديدين معا. فهنا وهناك يجري تجاوز الفراغ الامني والاصولية الاسلامية معا. ولاشك ان للجيش بالبلدين دورا حاسما في مساعدة الشعبين على اسقاط التهديدين. واذا صح هذا الاستنتاج تكون رياح تونس ومصر قد كنست آثارا معينة للغزو الاميركي للعراق، وهي تلك الآثار التي جعلت الرأي العام العربي يقرن " الديمقراطية" بالفوضى والأصولية.
لقد مرت عقود طويلة صرنا فيه نحن العرب اشبه بنزلاء مأوى المجانين في رواية " طيران فوق عش الكوكو"، وهؤلاء عاشوا مثل أطفال قانعين بسجن الرقابة الدقيقة والرعاية الصارمة ل" الممرضة الكبرى" لقاء الامان الذي توفره لهم. ومع اعتياد هذا النوع من الرعاية اصبحت الحرية لديهم ثقيلة، محزنة، ومخيفة، كحال شاب يحاول والداه ارغامه على تغيير حياته العابثة التي يحب الى حياة مسؤولة.
ان مصر هي الأقدر على تحرير العالم العربي من مأوى المجانين.وهي اليوم وعد. وهي توعد. هناك، هذه الأيام، الكثير من الأمل يحلق في سماء المنطقة. وهناك الكثير من الخوف. قلوب تخفق واخرى محبوسة الأنفاس. محكومون يتحررون من خوفهم ويندفعون بالأمل فيخيفون اكبر جهاز شرطة في العالم العربي!
احمد المهنا
GMT 7:58:00 2011 الأحد 30 يناير
وظيفة رجال الشرطة والمباحث في مصر هي حماية النظام الحاكم، وفقط النظام الحاكم لا غير. هذه حقيقة مسحت عنها انتفاضة الشعب المصري كل غبار. وهي حقيقة تكشف الوضع المقلوب. ان حماية ارواح الناس والممتلكات هي وظيفة القوات الامنية في كل مكان، الا في هذا الجزء من العالم، اذ تبدو هذه المهمة هنا ثانوية، بل غير ممكنة في الاساس الا في حالة واحدة هي انسجام مهمة حماية ارواح الناس وممتلكاتهم مع أمن النظام الحاكم.
ان امن النظام الحاكم هو سدى العمل ولحمته. فلما ظهر ان هدف التظاهرات اطاحة النظام الحاكم وقع تعارض تام بين المحتجين وبين حماة النظام، تصدى رجال الشرطة والأمن الى المتظاهرين بعنف، وتصاعد هذا العنف احيانا الى اطلاق رصاص حي حصد ارواح العشرات، وربما المئات. كانت هذه هي المرحلة الاولى. المرحلة التالية التي ظهرت مفاعيلها في نحو السادسة من مساء "جمعة الغضب" شهدت مفاجأة اذهلت العالم. وتلك هي اختفاء رجال الشرطة والمباحث اختفاء تاما من كافة انحاء القاهرة والاسكندرية والسويس ثم تباعا في بقية المدن.
ما تفسير هذا الاختفاء؟
هناك ثلاثة تفسيرات اولها، واضعفها، ان يكون الاختفاء تم بطلب من الجيش بعد اتخاذ القرار بنزوله الى الشارع، بناء على فلسفة من نوع منع قيام القوتين بمهمة واحدة في آن واحد، لمنع الاحتكاك بين القوات المسلحة وبين القوات الامنية. لكن مثل هذه السبب غير معقول، اذ يمكن ببساطة تقسيم مهمة فرض الاستقرار بين الجانبين من دون اي احتكاك، فتتولى القوات المسلحة حماية الممتلكات الحيوية العامة، وتتولى الشرطة والمباحث حماية الارواح والممتلكات الخاصة. وممتلكات الدولة توجد عادة في الشوارع الرئيسية، بينما الارواح والممتلكات الخاصة تقع غالبا في الشوارع الفرعية والاحياء والأزقة.
التفسير الثاني هو هروب الشرطة والمباحث من الجماهير الغاضبة. فقد تحرر المتظاهرون من الخوف، واكتشفوا قوتهم وهي فوق العادة غالبا في لحظات كسر حاجز الخوف، فاستخدموا هذه القوة في مطاردة الشرطة وملاحقتها في الشوارع وفي مراكز عملها، حتى اضطروها الى الهروب والاختفاء. ومعروف ان العلاقة بين الجانبين على اسوأ ما يكون، فالشرطة والمباحث في هذا البلد هي اداة اذلال الشعب وحماية احد اكثر الانظمة فسادا على وجه الارض.
التفسير الاخير الذي رجحه كثيرون هو ان الاختفاء جاء وفق نظرية المؤامرة: السلطة امرت به لاحداث فراغ امني يفتح المجال امام الفوضى وانتشار اعمال السلب والنهب، تمهيدا لمقايضة النظام مقابل الأمن، او عودة الشرطة والمباحث مقابل انهاء الفوضى وعودة الاستقرار. ولعل قيام اي نظام بمثل هذه الخطوة، وفي ظل تسارع الاحتجاج وتنامي حجومه، يعد مغامرة لا يمكن ضمان نتائجها بحال من الأحوال.
ان " مؤامرة الاختفاء" تفسير خيالي. لكن الا يبدو هروب الشرطة المصرية امام المتظاهرين امرا خياليا هو الآخر؟ ساعات طويلة من ليل الجمعة وطوال اليوم التالي والسؤال يدور في العالم: اين رجال الشرطة والمباحث؟ وقد اسهم تعطيل السلطة شبكات الاتصال من الهاتف النقال الى الانترنت في التعتيم على حقيقة ما جرى للشرطة ولمباحث الأمن ومراكزهما.
ولكن في الحالين، الاختفاء هروبا او تآمرا، هناك حقيقة واحدة، وهي ان شرطة ومباحث هذه البلاد ليست مؤتمنة من ابناء الشعب، ولا موضع ثقته. انها قوة مكروهة، ومحسوبة على النظام الذي دخل شعب مصر في طور الثورة عليه. قوة وظيفتها حماية أمن النظام الحاكم في المقام الأول، بينما ترهن توليها دورها المتعلق بحماية الشعب بمقدار طاعته وخضوعه.
وهذه الطاعة ليست هي الطاعة الطبيعية للقانون، ولا الخضوع الواجب لنظام مشروع، بل هي الامتثال المفروض لنظام تسلطي، بلغ به الفساد درجة الكمال، بالخصوص مع نهجه الذي كان سائرا نحو ارساء "جمهورية وراثية": انظروا التناقض المرعب حقا في هذا التعبير. كيف يمكن ان تكون هناك " جمهورية"، اي دولة تستمد سلطتها من الجمهور، من الشعب، بينما ينصب عليها رئيس بالوراثة؟
ويبدو ان انتفاضة مصر حلت هذا التناقض بانهاء سيرة الجمهورية الوراثية في العالم العربي، فقبل ان يتضح هذا في مصر نفسها، قبل اعلان تعيين اللواء عمر سليمان نائبا للرئيس، صرح الرئيس عبد الله صالح بانه لا وراثة ولا رئاسة ابدية في اليمن.
وعلى اي حال فان قوة الناس ان لم تكن قد تسببت بهروب الشرطة فانها سرعان ما ظهرت في قيامها بتنظيم نفسها على هيئة لجان وتجمعات امام المحال التجارية وامام العمارات وفي الاحياء والأزقة لحماية الأنفس والممتلكات من اعمال النهب والسلب. ولم يتأخر الناس عن القيام بهذه المهمة الا بضع ساعات، ساعات كانت باهظة الثمن من دون شك، ولكن تداركها ربما سيعوض مصر والعالم العربي كله بما لا يقدر بثمن، وذلك هو سقوط التهديد بفرضية الفراغ الأمني، وهي الفزاعة التي تهدد بها النظم العربية شعوبها، الى جانب فزاعة الاسلام السياسي.
ولعل المفارقة العجيبة هي ان الفزاعتين وجدتا ترجمة لهما في نتائج الغزو الاميركي للعراق. لكن يبدو ان انتفاضتي تونس ومصر في طريقهما لاسقاط التهديدين معا. فهنا وهناك يجري تجاوز الفراغ الامني والاصولية الاسلامية معا. ولاشك ان للجيش بالبلدين دورا حاسما في مساعدة الشعبين على اسقاط التهديدين. واذا صح هذا الاستنتاج تكون رياح تونس ومصر قد كنست آثارا معينة للغزو الاميركي للعراق، وهي تلك الآثار التي جعلت الرأي العام العربي يقرن " الديمقراطية" بالفوضى والأصولية.
لقد مرت عقود طويلة صرنا فيه نحن العرب اشبه بنزلاء مأوى المجانين في رواية " طيران فوق عش الكوكو"، وهؤلاء عاشوا مثل أطفال قانعين بسجن الرقابة الدقيقة والرعاية الصارمة ل" الممرضة الكبرى" لقاء الامان الذي توفره لهم. ومع اعتياد هذا النوع من الرعاية اصبحت الحرية لديهم ثقيلة، محزنة، ومخيفة، كحال شاب يحاول والداه ارغامه على تغيير حياته العابثة التي يحب الى حياة مسؤولة.
ان مصر هي الأقدر على تحرير العالم العربي من مأوى المجانين.وهي اليوم وعد. وهي توعد. هناك، هذه الأيام، الكثير من الأمل يحلق في سماء المنطقة. وهناك الكثير من الخوف. قلوب تخفق واخرى محبوسة الأنفاس. محكومون يتحررون من خوفهم ويندفعون بالأمل فيخيفون اكبر جهاز شرطة في العالم العربي!