تحوّلت إلى عملاق تجاري بفضل عباءة الضبابية التي تلفها
هكذا صارت المؤسسة العسكرية عمود مصر الفقري
صلاح أحمد من لندن هكذا صارت المؤسسة العسكرية عمود مصر الفقري
GMT 18:00:00 2011 الجمعة 11 فبراير
وصف المؤسسة العسكريّة المصريّة بأنها تقف في صدارة البُنى الكبرى التي تتمتع بالاستقرار وبالثقة والاحترام من جانب المواطنين بحيث صارت في مقام يضفي عليها شيئا من العصمة. ولكنها في الوقت نفسها تتميز بالضبابية والغموض.
ومن ثوابتها أنها القوة الصناعية والتجارية الأعلى كما يتضح في شخص المشير محمد حسين طنطاوي.
فهو - بالإضافة لكونه القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع - يشغل أيضا منصب وزير الإنتاج الحربي. وهذا يجعل منه، عمليا، كبير المدراء التنفيذيين في «شركة تجارية» عملاقة تتوغل إلى سائر مناحي المجتمع المصري ومختلف همومه ومشاغله.
جذور عميقة
من الصعب وصف عمق الجذور التي تتمتع بها القوات المسلحة وسط المصريين الذين يعتبرونها ماضيهم (في النضال ضد الاستعمار الانكليزي) وحاضرهم (في الدفاع ضد إسرائيل) ومستقبلهم (في حفظ أمنهم). وتقريبا فإن كل أسرة مصرية ساهمت بأحد أفرادها على الأقل مجندا او جنديا أو ضابطا في صفوفها.
ولشرح جزء من دور القوات المسلحة في الحياة العامة فليُذكر أنها أيضا الجهة المموِّلة للعديد من المنظمات الرياضية.
وعندما اندلعت أزمة الخبز الأخيرة التي أدت لاندلاع مظاهرات غاضبة العام الماضي، سارع الجيش الى تهدئة الشارع بضخه الرغيف يمنة ويسرة من مخابزه العديدة.
ومع كل ذلك فإن رجل الشارع لا يعلم سوى القليل عن الكيفية التي تعمل بها هذه المؤسسة العملاقة. ويعود السبب في هذا إلى أن الحديث والكتابة عنها ظلت بين الخطوط الحمراء المحرم على وسائل الإعلام تعديها.
سرّية كاملة
يبدأ مسلسل السرية الذي يحيط بالقوات المسلحة بميزانيتها التي تقدرها مؤسسة «جينز» المتخصصة في شؤون الدفاع بخمسة مليارات دولار، مع أن باحثين وخبراء آخرين يقولون إنها أربعة أو خمسة أضعاف هذا المبلغ. وحتى اللجنة البرلمانية المسؤولة عن هذا الأمر تعج بالعسكريين ولا أمل قريبا في خضوعها للإشراف المدني.
وهناك دور القوات المسلحة في بنية البلاد الاقتصادية. ويعود تاريخ المصانع الحربية الى عشرينات القرن التاسع عشر عندما كانت تنتج الأزياء العسكرية والأسلحة الصغيرة. ثم توسعت منذ خمسينات القرن الماضي مع سيطرة الدولة على الاقتصاد.
واليوم فإن عددا هائلا من مصانع البلاد وشركاتها تدار من قبل عسكريين في مناصب عليا وتسيطر على قطاعات تجارية مثل الصناعات النفطية والبناء والأسمنت والفنادق والسايرات والملابس وزيت الزيتون وحتى الماء.
موارد هائلة
أحد مصادر الموارد المهمة في ثروة القوات المسلحة الهائلة - إضافة إلى ما سبق ذكره - هو تملكها قطاعات واسعة من أراضي الدلتا وساحل البحر الأحمر والمنتجعات الفاخرة المغلقة المشتتة على الشواطئ.
وينحو العسكر المتقاعدون أيضا لشغل المناصب العليا في مختلف الوزارات والمصالح والمؤسسات الحكومية.
وقد هيأ هذا الوضع للضباط حياة رخوة بالمقارنة مع بقية الشعب، تتخذ بعض مظاهرها في شبكة منتدياتهم الاجتماعية الفاخرة ومرتبات تقاعدهم العالية - وكل هذا لضمان ولائهم.
وتستفيد القوات المسلحة أيضا من مزايا لا تتوفر لسواها مثل أنها معفاة من الضرائب ولا تخضع لقيود البيروقراطية المصرية الشهيرة التي تخنق القطاع الخاص.
وقد هيأت لها كل هذه العوامل أن الخبراء الاقتصاديين يقارنون دورها بذلك الذي يؤديه «جيش التحرير الشعبي» الصيني، ويقولون إنها تدر على الاقتصاد المصري 10 إلى 15 في المائة من حجمه السنوي البالغ 210 مليارات دولا في المتوسط.
الحرب على جمال مبارك
على أن الجنرالات ظلوا ينظرون بقلق إلى اتجاه مبارك نحو «توريث» الحكم إلى ابنه جمال.
وثمة سببان لهذا القلق: الأول هو أن جمال مبارك غير عسكري وتوليه الحكم يعني انعطافة غير مسبوقة ستقود إلى إنهاء وجود الجيش - وهو الحادي عشر في العالم من حيث الحجم إذ يتألف من نصف المليون من الجنود النظاميين - في السلطة التي ظل يتمتع بها منذ العام 1952 منذ أن أطاح تنظيم الضباط الأحرار الملك فاروق.
والثاني هو أن أجندة تحرير الاقتصاد، التي راح جمال يلوّح بها واتجاهه بالتالي إلى وضع القطاع العام بأكمله في أيدي «أصدقائه» رجال الأعمال، تشكل تهديدا مباشرا لمصالح الجيش التجارية.
وبين هؤلاء الأخيرين بشكل خاص أحمد عز، رجل الأعمال والسياسي الذي ارتقى الدرج السياسي بسرعة هائلة فتمتع بعضوية لجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وشغل منصب أمين التنظيم إضافة لامتلاكه مجموعة شركات عز الصناعية.
وقد أقلق العسكريين بشكل خاص عندما تمكن من انتزاع احتكار صناعة الفولاذ التي ظلت القوات المسلحة تضع عينها نصبها. فهي المشتري الرئيسي للفولاذ ويؤذيها، ولا شك، أن يحتكره عز ويحدد أسعاره كما حلا له.
ثمار ثنائية المذاق
من الثمار التي قطفها الجيش من الثورة الشعبية الأخيرة، أولا سد الطريق على وراثة جمال والده في السلطة، وحرمان أصدقائه من نفوذهم الكبير الذي اكتسبوه بفضل سياسة التحرر الاقتصادي التي سعى اليها.
وعلى سبيل المثال فقد جّرد أحمد عز من مناصبه السياسية وجُمدت أرصدته وحُظر عليه السفر خارج البلاد.
وتنقل مجلة «تايم» عن راشد الخالدي، بروفيسير الدراسات العربية بجامعة كولومبيا قوله: «لهذا السبب فلن نرى إصلاحات على الطراز الغربي تدخل بالاقتصاد المصري إلى حظيرة الليبرالية الجديدة. وأعتقد أن التطورات الأخيرة تعزز ساعد الجيش وتعني عودة الى سيطرة الدولة على مسيرة التنمية».
وهذا بالضبط هو ما تريده المؤسسة العسكرية لأنها في واقع الأمر المؤسسة الحاكمة أيضا. لكن هذه الثمار - وإن كانت حلوة المذاق على ألسنة العسكر، فهي مرة المذاق بالنظر إلى تكبيلها دفع عجلة الاقتصاد على طريق التحرر.
الداخلية كبش الفداء
مما لا شك فيه، وفقا للمراقبين، أن الجيش سيعارض العديد من الإصلاحات التي أجبرت المظاهرات الحكومة على تقديمها. وإذا كانت ثمة مؤسسة أمنية ستغشاها رياح الإصلاح فلن تكون الجيش وإنما وزارة الداخلية.
ويقول الخالدي إن لهذه الوزارة عددا من الوحدات السرية يدوخ له العقل بحيث تستطيع إطلاق عشرات، إن لم يكن مئات، الآلاف من العملاء في أي مدينة بين عشية وضحاها.
وهي تتبع، باعتبارها مؤسسة أمنية، لجهاز المخابرات العامة الذي كان يديره الجنرال عمر سليمان منذ 1993 حتى تعيينه قبل أسبوعين نائبا لمبارك للإشراف على المرحلة الانتقالية.
ومع أن الداخلية على هذا النحو تتبع عمليا للجيش، فهي كبش الفداء الذي لا يمانع في وضعه على منصة قربان الإصلاح نيابة عنه وبهذا يبدد الغضب الشعبي بدون أن يطاله رشاشه، كما يقول روبرت سبرينغبورغ، خبير الشوون العسكرية المصرية بكلية الدراسات البحرية العليا، كاليفورنيا. ويضيف قوله: «حتى بافتراض تولي الإخوان المسلمين السلطة في وقت ما في حقبة ما بعد مبارك فلن يستطيعوا المساس بالجيش».
ضرورة الإصلاح
يتفق المراقبون على أن المؤسسة العسكرية بحاجة ماسة للإصلاح. فبرقيات الدبلوماسيين الأميركيين التي سرّبها «ويكيليكس» أخيرا تكشف أشياء مثل أن جيل الضباط ذوي الرتب الوسطى لا ينظر بعين العطف إلى الكبار من أمثال طنطاوي الذي بلغ 85 سنة من العمر - متجاوزا الرئيس نفسه (82 سنة).
وتقول برقية يعود تاريخها إلى 2008: «ظل طنطاوي يعارض، داخل مجلس الوزراء الذي يتمتع فيه بنفوذ هائل، أي محاولة للإصلاح السياسي أو الاقتصادي باعتبار أيا منهما خطرا على سلطة الحكومة المركزية».
ويقول أولئك الضباط إن الجيش تحت إمرته جعل من السعي إلى التأثير السياسي شاغله الأول قبل المهنيّة العسكرية.
وثمة ضيق شعبي عميق أيضا إزاء أن طنطاوي، الذي يلقبه الضباط «بودل مبارك«»، وجنرالات آخرين مثل عمر سليمان ورئيس هيئة الأركان سامي عنان، هم الضمانة الحقيقية التي ظل مبارك يستند عليها في إصراره على عدم البقاء في السلطة.
بعبارة أخرى فإن الجيش هو سبب بقاء النظام الحالي رغم الرغبة الشعبية العارمة في رحيله، وهذا هو أيضا الرأي السائد وسط الدبلوماسيين الغربيين.
انحسار القدرة القتالية
من دواعي الإصلاح أيضا، كما يقول العديد من الخبراء العسكريين، الانخفاض الحاد الذي يشهده الجيش في قدراته القتالية الحقيقية.
وصحيح أن مصر هي رابع أكبر الحاصلين على المنتجات الحربية الأميركية وخاصة طائرات «إف 16» وتملك 4 آلاف دبابة متطورة.
لكن الصحيح أيضا هو افتقارها لآخر صيحات تكنولوجيا الاتصالات اللازمة لتنسيق عمل هذه الأسلحة على ساحات معارك القرن الحادي والعشرين.
.. وأخيرا
مما لا شك فيه هو أن المؤسسة العسكرية المصرية ستظل بمثابة القلب في أي نظام تفرزه الثورة الحالية. وكما يقول سبرينغبورغ فقد يتمكن المتظاهرون ودعاة الإصلاح من الفوز بالقليل هنا وهناك في ما يتعلق بـ«تمدين» أنشطة الجيش ذات الطبيعة المدنية.
بل ربما تمكنوا من «طلائه» بصبغة إشراف مدني بحيث يبدو خاضعا للمؤسسة السياسية وليس العكس. لكن هذه ستبقى مجرد صبغة قشرية لا تغيّر من الجوهر في شيء. وهكذا تظل المؤسسة العسكرية هي العمود الفقري لأي نظام مقبل لأنها العمود الفقري لمصر نفسها.