سعد الدين ابراهيمالديمقراطية هى الرد الحاكم على الفتنة الطائفية
كان الوجه القبيح لما حدث من احتجاجات
شعبية على تعيين اللواء عماد شحاتة ميخائيل مُحافظاً لقنا، هو الاستغلال
السياسى والطائفى لهذه الاحتجاجات. ولا وقاية من هذا الاستغلال مُستقبلاً،
إلا بانتخاب المُحافظين ورؤساء المُدن، أسوة بانتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء
مجلسى الشعب والشورى. بل ربما يكون انتخاب من يُديرون الشأن المحلى
المُباشر، أهم للمواطن العادى، فى حياته اليومية، من رئيس الجمهورية.وهذا
التأكيد، يعرفه تماماً، من درسوا، أو مارسوا السياسة فى أى مجتمع
ديمقراطى. ومن ذلك القول الشائع فى الديمقراطيات المستقرة من الهند إلى
سويسرا، ومن السويد إلى كندا وهو أن «السياسة»، كل «السياسة» تبدأ فى
الأسرة، ثم الحى، ثم القرية أو المدينة. وهو المُرادف للعبارة الإنجليزية
(All politics is local politics).
وقد كان هذا هو الحال فى أول ديمقراطية،
تم توثيقها تاريخياً، فى أثينا الإغريقية القديمة، منذ أربعة آلاف سنة.
فقد كان كل أهل المدينة من «الأحرار» (أى باستثناء العبيد والأجانب
الزائرين)، يجتمعون دورياً فى ساحة عامة، لمُناقشة أمورهم، والتصويت على ما
ينتهون إليه من قرارات.
وكان هذا الشكل من أشكال اتخاذ القرار،
يُعرف باسم «الديمقراطية المباشرة». وكانت مُمكنة، طالما كان عدد المواطنين
لا يتجاوز عدة مئات. ولكن مع زيادة أعداد الناس، كان لا بد من إيجاد أشكال
أخرى، ربما كان أهمها، هو أن ينتخب الناس مُمثلين ينوبون عنهم فى اتخاذ
القرارات التى تؤثر على حياتهم اليومية.
وهذه هى «الديمقراطية النيابية»، أو
الديمقراطية غير المُباشرة. ويستطيع المواطنون تغيير نوابهم دورياً، كل
سنة، أو ثلاث، أو خمس سنوات. وفى عديد من البُلدان الديمقراطية، يتم اختيار
أعضاء مجالس النواب، والمُحافظين، ورؤساء المُدن والقرى، بل والقضاة،
ورؤساء الشرطة، بنفس الطريقة (أى الانتخابات الدورية).
ولا يعنى ذلك أن المواطنين دائماً
يُصيبون. ولكنه يعنى أن المواطنين يتعايشون مع نتيجة قراراتهم أو
اختياراتهم، إلى نهاية الفترة أو الدورة الانتخابية.
ودلالة ما حدث فى مُحافظة قنا من
احتجاجات على تعيين اللواء/ عماد شحاتة ميخائيل مُحافظاً، هى أنها امتداد
للحريات التى بدأ المواطنون المصريون يشعرون بها منذ ثورة 25 يناير. ولأن
الرجل كان ضابط شرطة، فقد كان الاحتجاج أيضاً تعبيراً عن مشاعر سخط عامة ضد
رموز هذا الجهاز الأمنى، الذى استبد، وطغى، وتكبّر، وحوّل مصر إلى «دولة
بوليسية»، خلال العقود الثلاثة لرئاسة محمد حسنى مُبارك. أما البُعد الثالث
لما حدث فى قنا، فهو أن ديانة اللواء عماد، هى «المسيحية».
ولا شك أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعداً
فى التوترات الطائفية، فى كل مصر، خاصة فى مُحافظات الصعيد. وهو ما يؤدى
بسهولة إلى تحويل أى خلاف بين شخصين، من طائفتين مُختلفتين، إلى نزاع، ثم
إلى صراع، ثم إلى فتنة طائفية، تُُصيب آخرين ممن «لا ناقة لهم فيها ولا
جمل».
أما البُعد الرابع والأخطر، فهو أن
جماعة أو حركة مُنظمة، يطلق أصحابها على أنفسهم اسم «السلفيون»، أقحمت
نفسها فى موضوع مُحافظ قنا، واستغلته، إما لاكتساب مزيد من الشعبية، أو
لاستعراض قوتها، وتكريس سيطرتها على المجتمع المحلى.
وأقول إن هذا البُعد الرابع هو الأخطر،
لأن عهد الناس بمن يسمون أنفسهم السلفيين، هو أنهم كانوا دعاة «تعبّد» وحث
على مكارم الأخلاق، أسوة بالسلف الصالح من المسلمين الأوائل. وكان يُقال
إنهم كتنظيم بدأ، بذهاب وعودة مئات الآلاف من المصريين إلى السعودية، سعياً
للعمل والرزق، وإنهم تأثروا إبّان تلك الهجرة النفطية «بالمذهب الوهابى»
المُتشدد.
وفى رواية أخرى أن جهاز مباحث أمن
الدولة المصرى، هو الذى قدم الرعاية والدعم لتنظيم السلفيين، لكى يوازن أو
يضرب بهم تنظيم الإخوان المسلمين. وبانهيار جهاز مباحث أمن الدولة، بعد
ثورة يناير، شطح السلفيون ونطحوا، أى أنهم أصبحوا بلا «رابط أو ضابط»!
وأياً كانت أصول وفروع السلفيين، فإن ما
فعلوه فى قنا، من احتجاجات وصلت إلى تعطيل حركة المواصلات بين الوجهين
القبلى والبحرى- يُذكّرنا من جديد بخطورة إقحام الدين فى السياسة، أو إقحام
السياسة فى الدين. فكما يقول عُلماء «الاجتماع الدينى»، «الدين قداسة،
والسياسة دناسة»، ولا ينبغى خلط «المقدس والمُدنس».
وبما أن مصر تحتفى بثورتها الديمقراطية
الفريدة، وتبنى نظاماً سياسياً جديداً، فالأولى أن تبدأ الديمقراطية من
القواعد المحلية. فهذا هو الحال، لا فقط فى بُلدان كثيرة أخرى على نحو ما
ذكرنا أعلاه، بل إنه كان مُمارسة مصرية خلال العصر الليبرالى، بين 1920
و1952. فقد كانت هناك «مجالس قروية» و«مجالس بلدية»، يتم انتخاب أعضائها فى
القرى والمُدن، على التوالى.
وبما أن هناك مجلساً قومياً لحقوق
الإنسان فعلاً، أو يستحدث مجلس جديد، من الهيئة القضائية، تكون مُهمته
الأساسية هى الإعداد للانتخابات والإشراف عليها، وإقرار شرعيتها، وإذا
أضفنا نصاً دستورياً ينص على أن تكون نسبة عشرة فى المائة من كل المواقع
الانتخابية، على الأقل، لمواطنين مصريين من المسيحيين، أو من غير المسلمين-
فإن ذلك سيُحقق ديمقراطية تمثيلية تشمل كل أبناء الوطن.
وبالمناسبة ليست تلك «بدعة»، فسويسرا
وبلجيكا، وهما من أخذنا عنهما دستور 1923، يفعلان ذلك، فضلاً عن إندونيسيا
وماليزيا. فالمهم فى النهاية أن يرضى مُعظم الناس عن نظامهم السياسى. ومن
شأن ذلك أن نُجنب مصر شر الفتن والمؤامرات.
والله أعلم
كان الوجه القبيح لما حدث من احتجاجات
شعبية على تعيين اللواء عماد شحاتة ميخائيل مُحافظاً لقنا، هو الاستغلال
السياسى والطائفى لهذه الاحتجاجات. ولا وقاية من هذا الاستغلال مُستقبلاً،
إلا بانتخاب المُحافظين ورؤساء المُدن، أسوة بانتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء
مجلسى الشعب والشورى. بل ربما يكون انتخاب من يُديرون الشأن المحلى
المُباشر، أهم للمواطن العادى، فى حياته اليومية، من رئيس الجمهورية.وهذا
التأكيد، يعرفه تماماً، من درسوا، أو مارسوا السياسة فى أى مجتمع
ديمقراطى. ومن ذلك القول الشائع فى الديمقراطيات المستقرة من الهند إلى
سويسرا، ومن السويد إلى كندا وهو أن «السياسة»، كل «السياسة» تبدأ فى
الأسرة، ثم الحى، ثم القرية أو المدينة. وهو المُرادف للعبارة الإنجليزية
(All politics is local politics).
وقد كان هذا هو الحال فى أول ديمقراطية،
تم توثيقها تاريخياً، فى أثينا الإغريقية القديمة، منذ أربعة آلاف سنة.
فقد كان كل أهل المدينة من «الأحرار» (أى باستثناء العبيد والأجانب
الزائرين)، يجتمعون دورياً فى ساحة عامة، لمُناقشة أمورهم، والتصويت على ما
ينتهون إليه من قرارات.
وكان هذا الشكل من أشكال اتخاذ القرار،
يُعرف باسم «الديمقراطية المباشرة». وكانت مُمكنة، طالما كان عدد المواطنين
لا يتجاوز عدة مئات. ولكن مع زيادة أعداد الناس، كان لا بد من إيجاد أشكال
أخرى، ربما كان أهمها، هو أن ينتخب الناس مُمثلين ينوبون عنهم فى اتخاذ
القرارات التى تؤثر على حياتهم اليومية.
وهذه هى «الديمقراطية النيابية»، أو
الديمقراطية غير المُباشرة. ويستطيع المواطنون تغيير نوابهم دورياً، كل
سنة، أو ثلاث، أو خمس سنوات. وفى عديد من البُلدان الديمقراطية، يتم اختيار
أعضاء مجالس النواب، والمُحافظين، ورؤساء المُدن والقرى، بل والقضاة،
ورؤساء الشرطة، بنفس الطريقة (أى الانتخابات الدورية).
ولا يعنى ذلك أن المواطنين دائماً
يُصيبون. ولكنه يعنى أن المواطنين يتعايشون مع نتيجة قراراتهم أو
اختياراتهم، إلى نهاية الفترة أو الدورة الانتخابية.
ودلالة ما حدث فى مُحافظة قنا من
احتجاجات على تعيين اللواء/ عماد شحاتة ميخائيل مُحافظاً، هى أنها امتداد
للحريات التى بدأ المواطنون المصريون يشعرون بها منذ ثورة 25 يناير. ولأن
الرجل كان ضابط شرطة، فقد كان الاحتجاج أيضاً تعبيراً عن مشاعر سخط عامة ضد
رموز هذا الجهاز الأمنى، الذى استبد، وطغى، وتكبّر، وحوّل مصر إلى «دولة
بوليسية»، خلال العقود الثلاثة لرئاسة محمد حسنى مُبارك. أما البُعد الثالث
لما حدث فى قنا، فهو أن ديانة اللواء عماد، هى «المسيحية».
ولا شك أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعداً
فى التوترات الطائفية، فى كل مصر، خاصة فى مُحافظات الصعيد. وهو ما يؤدى
بسهولة إلى تحويل أى خلاف بين شخصين، من طائفتين مُختلفتين، إلى نزاع، ثم
إلى صراع، ثم إلى فتنة طائفية، تُُصيب آخرين ممن «لا ناقة لهم فيها ولا
جمل».
أما البُعد الرابع والأخطر، فهو أن
جماعة أو حركة مُنظمة، يطلق أصحابها على أنفسهم اسم «السلفيون»، أقحمت
نفسها فى موضوع مُحافظ قنا، واستغلته، إما لاكتساب مزيد من الشعبية، أو
لاستعراض قوتها، وتكريس سيطرتها على المجتمع المحلى.
وأقول إن هذا البُعد الرابع هو الأخطر،
لأن عهد الناس بمن يسمون أنفسهم السلفيين، هو أنهم كانوا دعاة «تعبّد» وحث
على مكارم الأخلاق، أسوة بالسلف الصالح من المسلمين الأوائل. وكان يُقال
إنهم كتنظيم بدأ، بذهاب وعودة مئات الآلاف من المصريين إلى السعودية، سعياً
للعمل والرزق، وإنهم تأثروا إبّان تلك الهجرة النفطية «بالمذهب الوهابى»
المُتشدد.
وفى رواية أخرى أن جهاز مباحث أمن
الدولة المصرى، هو الذى قدم الرعاية والدعم لتنظيم السلفيين، لكى يوازن أو
يضرب بهم تنظيم الإخوان المسلمين. وبانهيار جهاز مباحث أمن الدولة، بعد
ثورة يناير، شطح السلفيون ونطحوا، أى أنهم أصبحوا بلا «رابط أو ضابط»!
وأياً كانت أصول وفروع السلفيين، فإن ما
فعلوه فى قنا، من احتجاجات وصلت إلى تعطيل حركة المواصلات بين الوجهين
القبلى والبحرى- يُذكّرنا من جديد بخطورة إقحام الدين فى السياسة، أو إقحام
السياسة فى الدين. فكما يقول عُلماء «الاجتماع الدينى»، «الدين قداسة،
والسياسة دناسة»، ولا ينبغى خلط «المقدس والمُدنس».
وبما أن مصر تحتفى بثورتها الديمقراطية
الفريدة، وتبنى نظاماً سياسياً جديداً، فالأولى أن تبدأ الديمقراطية من
القواعد المحلية. فهذا هو الحال، لا فقط فى بُلدان كثيرة أخرى على نحو ما
ذكرنا أعلاه، بل إنه كان مُمارسة مصرية خلال العصر الليبرالى، بين 1920
و1952. فقد كانت هناك «مجالس قروية» و«مجالس بلدية»، يتم انتخاب أعضائها فى
القرى والمُدن، على التوالى.
وبما أن هناك مجلساً قومياً لحقوق
الإنسان فعلاً، أو يستحدث مجلس جديد، من الهيئة القضائية، تكون مُهمته
الأساسية هى الإعداد للانتخابات والإشراف عليها، وإقرار شرعيتها، وإذا
أضفنا نصاً دستورياً ينص على أن تكون نسبة عشرة فى المائة من كل المواقع
الانتخابية، على الأقل، لمواطنين مصريين من المسيحيين، أو من غير المسلمين-
فإن ذلك سيُحقق ديمقراطية تمثيلية تشمل كل أبناء الوطن.
وبالمناسبة ليست تلك «بدعة»، فسويسرا
وبلجيكا، وهما من أخذنا عنهما دستور 1923، يفعلان ذلك، فضلاً عن إندونيسيا
وماليزيا. فالمهم فى النهاية أن يرضى مُعظم الناس عن نظامهم السياسى. ومن
شأن ذلك أن نُجنب مصر شر الفتن والمؤامرات.
والله أعلم