فى كثير من الأحيان تبدو العلاقات بين هذه الروافد الثلاثة غامضة وغير
مفهومة، لكن رؤية متأنية تكشف لنا بجلاء أن الجميع يشربون من ذات البئر..
وإن اختلفت الرؤى أو الوسائل فى بعض الأحيان، كما أن هذا الاختلاف ليس
أبدياً فالحنين إلى ذات البئر قد يقتاد هذا الطرف أو ذاك إلى تقارب قد لا
نحسب الآن حسابه.
وإذ نبدأ بالحركات الجهادية وعلاقتها بجماعة الإخوان.. ونمسك ببعض
الخيوط، ففى السجن وتحديداً فى عام ١٩٥٨ بدأ الأخ نبيل البرعى فى الترويج
علنا لفكرة تكفير الحاكم (الذى يسجنهم ويعذبهم تعذيباً شديد القسوة)
وتكفير المحكوم الذى لم ينضم لجماعة المسلمين، والتف حول البرعى عدد من
السجناء الإخوان وأغلبهم من أبناء الجهاز السرى منهم إسماعيل الطنطاوى
ومحمد عبدالعزيز الشرقاوى وحسن الهلاوى وعلوى مصطفى (د. رفعت سيد أحمد -
النبى المسلح - الجزء ١- صـ٢١) واسمت هذه المجموعة نفسها «جماعة الجهاد»
وانضم إليها فيما بعد الملازم عصام القمرى الذى لعب دوراً بارزاً فى تنظيم
الجهاد وقتل خلال مطاردته بعد هروبه من سجن طرة، ومن تحت ذات العباءة
الإخوانية أتى عبده إسماعيل وكان أيضاً سجيناً إخوانياً فى فترة الستينيات
وهو شقيق عبدالفتاح إسماعيل الذى شارك وهو خارج السجن فى تأسيس مجموعة
سيد قطب وأعدم معه، وبعدها بدأ عبده فى تأسيس جماعة داخل السجن سماها
«جماعة المسلمين» معلناً أنها نواة المجتمع المسلم الذى سيقوم على أنقاض
مجتمع الكفر والجاهلية، ومن هذه المجموعة أتى شكرى مصطفى وهو فى السجن
أيضاً ليؤسس بعد الإفراج عنه جماعة «التكفير والهجرة»،
أما حسن الهلاوى الذى كان فى المجموعة الأولى مع نبيل فقد برز اسمه عقب
الإفراج عنه ضمن مجموعة «الفنية العسكرية» التى أسسها صالح سرية وكان
عضواً فى جماعة الإخوان وعندما حضر إلى القاهرة تلقى دعماً إخوانياً
كاملاً عن طريق الأخت زينب الغزالى، وأسس بفضل هذا الدعم جماعة « شباب
محمد» التى عرفت بجماعة «الفنية العسكرية» هذا عن الأفراد، فماذا عن البئر
الموحدة لهذا الفكر المتأسلم؟ الحقيقة أنه لا يمكن فهم طبيعة ومكونات
الحركات الجهادية التى برزت فى السبعينيات من القرن الماضى دون انفصال عن
الفكر الإخوانى وعن الأساس النظرى لقيام الجهاز السرى للإخوان. ويقول
د.رفعت سيد أحمد إن «هذه الحركات ذات امتداد لأفكار وممارسات تنظيمات
سابقة ولم تكن مجرد رد فعل لأوضاع سياسية واقتصادية مع التسليم بأهمية دور
هذه الأوضاع» (المرجع السابق - صـ ٢١) ويقول «إن كتاب معالم فى الطريق
يعتبر عند الباحثين الغربيين الأساس لفهم الحركة الإسلامية (الجهادية)
فوفاة حسن البنا تركت فراغاً «كبيراً» فى جماعة الإخوان إلى أن جاء سيد قطب
فملأ هذا الفراغ، ففى هذا الكتاب وضع سيد قطب الوثيقة الأساسية
لأيديولوجية جماعة الإخوان، بل أيديولوجية الحركة الجهادية كلها» (صـ٢٠).
وإذا كان الإخوان لا يتجاسرون حتى الآن على توجيه أى نقد «للشهيد» سيد
قطب، ويقفون وبحماس خلف إعادة طبع كتبه التكفيرية فإنهم يلوذون أحياناً
بالقول بأن فضيلة المرشد حسن الهضيبى قد أصدر كتاب «دعاة لا قضاة» رداً
على معالم فى الطريق، فإن أمامنا رواية أخرى للأخت زينب الغزالى القائدة
الإخوانية المرموقة فى ذلك الحين، فقد أكدت فى مذكراتها «أيام من حياتى»
أن فضيلة المرشد قد قرأ «كتاب معالم فى الطريق» وهو فى السجن مرتين وأجاز
طبعه وقال إن الكتاب جعل من سيد قطب أمل الدعوة. والشىء المثير للدهشة هو
أن تتبع الأسماء والمسميات من الجهاز السرى الإخوانى إلى التكفير والهجرة
والفنية العسكرية والجهاد والجماعة الإسلامية والناجون من النار وغيرها
يوضح كيف أنها هزمت جميعاً وتلقت ضربات قاسية ومع ذلك يواصلون دوماً ذات
النهج رغم ادعاءات قد تبدو معتدلة من قبيل التدليس دون أى اعتراف بالخطأ
أو الفشل.
أما الشق الآخر وهو التيارات السلفية فقد تشاركت أيضاً فى الأخذ من ذات
البئر، فمع الضربات الناصرية الشديدة القسوة اختفت كوادر إخوانية عديدة فى
كنف الجمعيات الأهلية الإسلامية التى تزايدت وجوداً ونفوذاً فى هذه
العقود، بحيث تزايدت نسبة هذه الجمعيات إلى مجمل الجمعيات الأهلية خلال
العقود الثلاثة الأخيرة فكانت نسبتها ١٧.٦٠% فى ١٩٧٠ وزادت إلى ٤٢.٢٠% فى
١٩٨٠، واستفادت هذه الجمعيات وفى طياتها جماعة الإخوان من ضعف دور الدولة
خلال ثمانينيات القرن الماضى فى مجال الخدمات كالصحة والتعليم فانتشرت
لتكتسب جماهيرية ونفوذاً (للتفاصيل راجع : د. أمانى قنديل - د. سارة بن
نفيسة - الجمعيات الأهلية فى مصر - صـ٣٥ ) وقد اكتشف نظام السادات وإن
متأخراً جداً مدى النشاط الإخوانى الخفى داخل هذه الجمعيات، فلجأ بعد
التصادم مع الإخوان إلى حل بعضها، ولا بد لنا أن نلاحظ أن أيمن الظواهرى
قد بدأت علاقته بالأمر كله عندما عمل طبيباً فى مستوصف خيرى للإخوان فى
السيدة زينب، حيث تم تجنيده، ثم إقناعه بالسفر إلى أفغانستان ( راجع
الرواية كاملة فى «أيمن الظواهرى - فرسان تحت راية النبى» - الإنترنت)
وكان هناك أيضاً فرع الجمعية الشرعية بالجيزة الذى سيطر عليه الدكتور
الإخوانى عليان عمار والذى نشط فى تسفير عديد من الشبان إلى أفغانستان
(روز اليوسف -١٣-١٢-١٩٩٣)، لكن الاهتمام الأكبر لجماعة الإخوان توجه إلى
«الجمعية الشرعية» التى تعتبر كبرى هذه الجمعيات وكانت مجلة الاعتصام
الشهرية الناطقة باسم الجمعية تستخدم أحياناً كلسان حال للتيار الإخوانى
الذى تزعمه الشيخ صلاح أبوإسماعيل، وكان الشيخ عبداللطيف مشتهرى رئيس
الجمعية الشرعية ومحمد عطية خميس، رئيس جمعية شباب سيدنا محمد يكتبان
باستمرار فى مجلة الدعوة الإخوانية فى أيام السادات، وفى الانتخابات
البرلمانية (١٩٨٧) برز دور هذه الجمعيات فى تأييد مرشحى الإخوان.
وكمثال نلاحظ أن الجمعية الشرعية والتى تضم ٣٥٠ فرعاً قد بدأ غزوها بكادر
إخوانى فى عام ١٩٧٣ وهو الحاج عبده مصطفى أبوشمه الذى قدم فيضاً من
التبرعات للجمعية أعقبه حصوله على مقعد فى مجلس الإدارة. كما سيطر
الإخوانى محمد عاشور على رئاسة تحرير مجلة الجمعية «الاعتصام»، ثم كان
الغزو الكبير للجمعية بتولى عبده مصطفى منصب وكيل الجمعية للشؤون المالية
والشيخ محمود فايد منصب وكيل الجمعية للشؤون العلمية والدكتور رضا الطيب
مسؤولية مشروع كفالة اليتيم بالجمعية الذى بلغت ميزانيته الشهرية مليون
جنيه فى عام ١٩٩٤» (روز اليوسف – ١٤-٨-١٩٩٥).
وكلما فتشنا نكتشف مسالك عديدة للعلاقات والتشابكات بين هذه القوى الثلاث.. والتى تشرب من ذات البئر.
وتتبقى بعد ذلك إضافتان هامتان، الأولى هى أن الموج الاخوانى إذ تمدد نحو
الفكر الجهادى وأسهم فى بناء الجماعات الجهادية فى سبعينيات القرن الماضى،
تلاه فى الثمانينيات والتسعينيات ارتداد موج جهادى لينضم إلى جماعة
الإخوان ويصعد رجاله سريعاً إلى قمم القيادة الإخوانية والأسماء عديدة
وشهيرة: العريان، الشاطر، أبو العلا ماضى (أسس فيما بعد حزب الوسط)
الكتاتنى وغيرهم كثيرون أصبحوا الآن الفاعلين الأساسيين فى العمل
الإخوانى.
أما الإضافة الثانية: فهى اعتذار واجب لمئات الآلاف من المؤمنين الذين
انحازوا وينحازون إلى الجمعيات الإسلامية الأهلية سعياً نحو التقرب إلى
الله دون أن يدركوا أن البعض قد تسلل ولم يزل إلى جمعياتهم سعياً وراء كسب
سياسى واتجار بالدين فى ساحة العمل الحزبى.