وبلادهما، يقول عنهما: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الساكنون في أرض ظلال الموت، أشرق عليهم نور" (أش 9: 2). ولكن ما فاق كل شيء من حيث قوة الوحي وقوة المعجزة هو تنبؤاته عن المسيح كولادته من عذراء ولاهوته وآلامه وموته ودفنه وقيامته مما يظهر بوضوح لكل ذي عينين مبصرتين وقلب مؤمن.
ب : أما نبؤاته عن بابل والسبي والرجوع منه فليست بالكثيرة إلى الحد الذي ينقلهما من ميدان النبوة إلى ميدان التاريخ.
ج : ينبغي أن لا يفوتنا أن أشعياء والأنبياء الذين عاصروه كانوا يعيشون في حالة ترقب لكثير من الحوادث التي وقعت فيما بعد. فكانوا يتوقعون مثلاً انكماش قوة آشور وقيام قوة بابل ونهوضها. وقد تنبأ الأنبياء الذين عاصروااشعياء بخراب أورشليم والهيكل (عا 2: 5 وميخا 3: 12 وقارنهما مع أش 3: 8 و6: 11) وتنبأوا بالقضاء على أرض يهوذا كما في (هو 8: 14 وعاموس 9: 11 و14 وقارنه مع أش 3: 25 و26 و6: 11و12و32: 13) وبسبي يهوذا (ميخا 1: 14- 16 وقارنه مع أش 11: 12) وبأن الشعب سيسبى في هذه المرة إلى بابل (ميخا 4: 10 وقارنه مع أش 39: 6و8) وكذلك تنبأوا بالرجوع من السبي (يوئيل 3: 1 وقارنه مع أش 11: 11) وبإعادة بناء أورشليم والهيكل (ميخا 4: 2) مع أنهم قد سبقوا وأنبأوا بخراب أورشليم (ميخا 3: 12 وقارنه مع يوئيل 3: 16- 20) وقد تنبأوا أن شعوباً كثيرين سيأتون ليعبدوا في أورشليم (أش 2: 2-4و11: 10 و18: 7 مع ميخا 4: 1- 3).
د : حالة الشعب الروحية التي تظهر لنا في سفر أشعياء هي انعكاس صادق لما كانت عليه حالة الشعب في ذلك الحين، كما يظهر ذلك في كتابات الأنبياء والمؤرخين الذين عاشوا في ذلك العصر، كانغماس الشعب في العبادة الوثنية تحت كل شجرة خضراء مثلاً (أش 1: 29و57: 5 وقارنه مع 2 ملو 16: 4) وبين أشجار البطم (أش 1: 29و57: 5 وقارنه مع هو 4: 13) وبالذبح في الجنات (أش 65: 3 و66: 17) وذبح الأطفال في الوديان (أش 57: 5 و2 أخبار 28: 3 و33: 6 و2 ملو 23: 10) والارتفاع فوق الجبال العالية لتقديم الذبائح (أش 57: 7 و2 أخبار 28: 4 وهو 4: 3 قارنه مع حز 6: 13) وغير هذا الكثير ، مما يصف حالة العصر الروحية وصفاً دقيقاً مثل تفشي الرياء وكسر السبت وسفك الدم والظلم والجور والخداع وإهمال العبادة في الهيكل والتبخير على الآجر وتقديم لحم الخنزير وأكله، مما صوره أشعياء كما صوره غيره من الأنبياء المعاصرين له.
بقي أمر آخر لا بد من ذكره في دراسة سفر أشعياء وهو ورود اسم كورش صراحة. وقد ارتأى الكثيرون ان الوحي ذكر اسم كورش حتى يعلم العبرانيون المسبيون أنه حالما يأتي كورش فقد أتى خلاصهم. ويقول المصلح كلفن أن الوحي قصد أنه عندما يأتي كورش ويعرف أنه هو المعين من قبل الله ليحمل الخلاص للمسبيين فإنه سيتجاوب مع هذا القصد السماوي ويتممه بأن يردّ المسبيين إلى فلسطين. إلا أننا نقول أنه لو كان هناك إيمان بوحي وبالمعجزة وبالنبوة وبالحوادث قبل وقوعها، وأن أبناء الله القديسين ويتممه بأن يردّ المسبيين إلى فلسطين. إلا أننا نقول أنه لو كان هناك إيمان بوحي وبالمعجزة وبالنبوة وبالحوادث قبل وقوعها، وأن أبناء الله القديسين نطقوا بهذه النبوات تحت قيادة وإرشاد روح الله القدوس لزالت كل صعوبة في ذكر أشعياء لكورش باسمه صراحة.
* يُكتَب خطأ: إشعيا النبي، اشعاء، اشيعيا، اشيعياء، اشيعا.
إشعياء : " النبى الأنجيلى " ،
ودعى سفره : " إنجيل إشعياء " أو " الإنجيل الخامس " .
من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد ، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفارى خاصة " الصليب " ؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة .
قال عنه أحد الآباء :
[ إنه أكثر من أى كتاب نبوى آخر ، يحوى أكمل النبوات المسيانية التى وجدت فى العهد القديم ، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد ]
اهتم به آباء الكنيسة خاصة فى حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائى وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ ... .
المحاكمة العظمى
يفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه ، فيها يقف الله مدعيا وقاضيا . لا يريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم .
يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودا ضد شعبه .
يعلن الإتهام وفى نفس الوقت يقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة ، يقف قاضيا وديانا وفى نفس الوقت طبيبا ومخلصا . يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة .
( 1 ) مقدمة السفر
" رؤيا إشعياء بن آموص الى رآها على يهوذا وأورليم فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا " إش 1 : 1
تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذى يضم مجموعة رؤى ونبوات أعلنت لإشعياء فى ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ ..... لكنه يدعوها جميعا " رؤيا " ، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة ، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به .
هذه الرؤى تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله .
( 2 ) استدعاء الطبيعة :
" إسمعى أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم : ربيت بنين ونشأتهم . أما هم فعصوا على " إش 1 : 2
يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان ، تستدعى فيها الطبيعة الجامدة – السماء والأرض – لتشهد هذه المحاكمة .
ربما استدعى إشعياء النبى الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبى [ راجع تث 32 : 1 ] . كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبى الذى يعتز به كل يهودى .
الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنا جامدا ، إنما هو " الحب " عينه ، فريد فى حبه لخليقته السماوية والأرضية ، خاصة حبه نحو الإنسان . لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يحدثنا بلغتنا البشرية معبرا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الإتحاد والشركة معه .
يتوقع الله فينا أن نحمل روح البنوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التى كلفته الكثير .
يعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم ، فإن عصيان البنين أمر من عصيان الأجراء والعبيد ، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التى يسببها الأعداء .
( 3 ) استدعاء الحيوانات :
" الثور يعرف قانيه ، والحمار معلف صاحبه ، أما إسرائيل فلا يعرف ، شعبى لا يفهم " إش 1 : 3
إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر ( خر 4 : 22 ) ، فكان يليق بالإبن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته ، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات ، إذا كان الإنسان قد انحط إلى ما هو أدنى من الحيوان ، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السماوات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوى
( 4 ) وصف لحال الشعب :
أولا : وصفهم بسبع سمات فى إش 1 : 4 – الثلاثة تشير إلى خطايا النفس الداخلية التى على صورة الثالوث ، والأربعة تشير إلى خطايا الجسد الظاهرة .
وكأن الشعب قد تدنس فى الداخل والخارج ، بخطايا خفية وظاهرة ، فى الجسد والروح .
السمات الأربع الأولى هنا تشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة : " ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الإثم ، نسل فاعلى الشر ، أولاد مفسدين " ؛ والسمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية : " تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى الوراء " .
رقم 7 يشير إلى " التمام " ، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحد . علام تضربون بعد ؟!
تزدادون زيغانا ، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم ؛ من أسفل القدم إلى الرأس ، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط ، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت " إش 1 : 5 ، 6 .
يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه . فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم ازدادوا زيغانا ، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعى
" بلادكم خربة ، مدنكم محرقة بالنار ، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهى خربة كانقلاب الغرباء ، فبقيت إبنة صهيون كمظلة فى كرم ، كخيمة فى مقثأة ، كمدينة محاصرة " إش 1 : 7 ، 8 .
يتحدث النبى هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الأشورى حاسبا ما سيحل بهم فى المستقبل كأنه حاضر ، لأنه أمر حادث لا محالة .
هذا الخراب الذى حل هو علامة على ما أرتكبه يهوذا من آثام ، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه ، وعدم طاعتهم لصوته .
هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها : الجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ ....
وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له ، بسببها لم يحطم شعبه الذى فسد ، إذ قيل :
" لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة " إش 1 : 9 .
لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التى تتقدس له وسط الفساد الذى يحل بالكثيرين .
( 5 ) استدعاء القضاة :
" اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم ، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة " إش 1 : 10 . فى شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب " قضاة سدوم " ويلقب الشعب نفسه " شعب عمورة " ، وذلك من أجل الظلم والفساد الذى أتسم به كل الرؤساء والمرؤوسين .
لا نجد فى كل السفر موقفا واحدا يشعر فيه النبى بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح فى مجده ( إش 6 ) ، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس .
يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته .
( 6 ) الإتهام : العبادة الشكلية :
الإتهام الموجه إليهم هنا خطير للغاية ؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء ، يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة ، يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله ، وحياتهم فاسدة .
كما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين :
" لأنك تقول أنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شىء ولست تعلم أنك أنت الشقى والبائس وفقير وأعمى وعريان " رؤ 3 : 17 .
هذا الإتهام اثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة فى حياة الكنيسة سواء فى العهد الجديد أو القديم والإلتزام بعد الإنحراف عن هذه الغاية الإلهية .
يقول : " من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دورى ؟! إش 1 : 12 . فقد أكثروا الدخول فى الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر ، فرآهم الله – فى عدم توبتهم – أشبه بالحيوانات التى تدوس بيته وتدنسه ! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صب غضب الله .
جاءوا بتقدمات كالبخور الذى يرمز إلى الصلاة ، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه ( إر 2 : 27 ) صار بخورهم مكرهة للرب ، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم .
( 7 ) دعوة للتوبة :
فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرا بشاعة الفساد الذى حل بهم دون أن يحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوى السماوى قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التى خلقهم عليها . هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب ،
أما خطواتها فهى :
( أ ) الأغتسال :
بقوله " اغتسلوا .. تنقوا " إش 1 : 16 لا يقصد التطهيرات الناموسية ، لأنه فى اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجى للعبادة ، إنما عنى اغتسال المعمودية الذى فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذى على صورة خالقنا .
هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية " حممتك بالماء " حز 16 : 9 ، إذ جاء فى نفس السفر " وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاساتكم ...... " حز 36 : 25 ، 26 .
( ب ) " اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى الرب .. كفوا عن فعل الشر " إش 1 : 16 . إذ ينال الإنسان النقاوة التى بها يعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهى ، فيرفض كل ما هو شر ، حتى لا يعرج بين الطريقين : الله والخطية .
( ج ) " تعلموا فعل الخير " إش 1 : 17 .. لا يكفى الجانب السلبى ، أى نزع كل ما هو شر والكف عنه دائما وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابى ، نحمل سمة المسيح الذى هو " الحق " فينا . لهذا يوصينا " اطلبوا الحق ، انصفوا المظلوم ، اقضوا لليتيم ، حاموا عن الأرملة " . هذه هى التوبة الإيجابية التى خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر واظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملى والرحمة ، خاصة تجاه العاجزين والأرامل .
( د ) الحب العملى تجاه المتألمين ، تجعل الله يفتح مراحمه أمامنا نحن الخطاة ، قائلا :
" هلم نتحاجج يقول الرب : إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج ، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف " إش 1 : 18 .
هذه دعوة صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب .
الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه فى حوار .. ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر ، حتى وإن عبر إلى التعود على صنع الشر ، حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف هـ ) تقديس الحرية الإنسانية ، إذ يقول :
" إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض ، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم " إش 1 : 19 ، 20 .
يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدا ، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختيارية ، يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفى نفس الوقت يترك له حرية الإختيار .
( 8 ) عتاب من واقع الماضى :
يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلا وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها ، بأسلوب مملوء رثاء وحزنا عميقا . غشعياء النبى صريح كل الصراحة ، لكنه مملوء حبا وعاطفة !
أ – كانت أورشليم " القرية الأمينة " إش 1 : 21 ، وقد صارت " زانية " يشبهها بالعروس التى كانت مخلصة لعريسها السماوى ، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها ، وقد جرت وراء آخر ( العبادة الوثنية ) فتنجست بزناها الروحى مع محبيها ( حز 16 : 25 ، 32 ، 36 ) – كانت عذراء ( إش 37 ) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات .
ب – كانت " ملآنة حقا ، كان العدل يبيت فيها ، وأما الآن فالقاتلون " إش 1 : 21 . كانت مسكنا للقدوس الذى هو " الحق " و " العدل " ، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته ، لكنها صارت مسكنا للقتلة ، لذا يقول الرب " ليس لإبن الإنسان أين يسند رأسه " مت 8 : 10 ، لو 9 : 58 ، حين تكون مقدسة تقول : " حبيبى لى ، بين ثديى يبيت " نش 1 : 13 . لكنها متى تنجست يصير قلبها " بين ثدييها " مسكنا للشر .
جـ - تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلا يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها .. صار خمرها مغشوشا بالماء ( إش 1 : 22 ) يحمل لون الخم لكنه مغشوش ماء ... هذه صورة عن الإهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الإهتمام بالأعماق .
مسيحنا يحول الماء خمرا ، أما الشرير فيحول الخمر ماءا
د- " رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص " إش 1 : 23 ، أى يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة .
يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء ، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة . يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية ، ولا يبالون بالأيتام والأرامل ، لأن المجد الزمنى شغلهم عن التفكير فيهم . حولوا أورليم " كنيسة المسيح " إلى بيت للظلم والقسوة والعنف .
( 9 ) الديان يتقدم كمخلص :
أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدى ، وإنما يقوم " رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل " إش 1 : 24 كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حل بهم .
يلاحظ هنا :
أ – دعى الله بثلاثة ألقاب [ السيد " يهوه " ، رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل ] .
يرى بعض الدارسين أنها إشارة خفية عن الثالوث القدوس .
وحملت أورشليم 3 ألقاب : مدينة العدل ، القرية الأمينة ، صهيون تفدى بالعدل ( إش 1 : 28 ) . ودعى الأشرار بألقاب ثلاثة أيضا : المذنبون ، الخطاة ، تاركو الرب ( إش 1 : 28 ) .
ب – يحسب الله من يتلف شعبه حملا ثقيلا ( إش 23 : 24 ) ، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه :
" أستريح من خصمائى ، وانتقم من أعدائى " إش 1 : 24 .
تبقى أحشاء الرب تحن على شعبه حتى يحطم الشر !
جـ - " ينقى أورشليم من الزغل كما بالبورق ( ربما يقصد بوتاسا المعادن ) ، إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر .
إنه ينقينا ايضا بالتأديب ولو ظهر قاسيا كالنار .
د – " وأعيد قضائك كما فى الأول " إش 1 : 26 . إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان فى بدء خلقته
ب : أما نبؤاته عن بابل والسبي والرجوع منه فليست بالكثيرة إلى الحد الذي ينقلهما من ميدان النبوة إلى ميدان التاريخ.
ج : ينبغي أن لا يفوتنا أن أشعياء والأنبياء الذين عاصروه كانوا يعيشون في حالة ترقب لكثير من الحوادث التي وقعت فيما بعد. فكانوا يتوقعون مثلاً انكماش قوة آشور وقيام قوة بابل ونهوضها. وقد تنبأ الأنبياء الذين عاصروااشعياء بخراب أورشليم والهيكل (عا 2: 5 وميخا 3: 12 وقارنهما مع أش 3: 8 و6: 11) وتنبأوا بالقضاء على أرض يهوذا كما في (هو 8: 14 وعاموس 9: 11 و14 وقارنه مع أش 3: 25 و26 و6: 11و12و32: 13) وبسبي يهوذا (ميخا 1: 14- 16 وقارنه مع أش 11: 12) وبأن الشعب سيسبى في هذه المرة إلى بابل (ميخا 4: 10 وقارنه مع أش 39: 6و8) وكذلك تنبأوا بالرجوع من السبي (يوئيل 3: 1 وقارنه مع أش 11: 11) وبإعادة بناء أورشليم والهيكل (ميخا 4: 2) مع أنهم قد سبقوا وأنبأوا بخراب أورشليم (ميخا 3: 12 وقارنه مع يوئيل 3: 16- 20) وقد تنبأوا أن شعوباً كثيرين سيأتون ليعبدوا في أورشليم (أش 2: 2-4و11: 10 و18: 7 مع ميخا 4: 1- 3).
د : حالة الشعب الروحية التي تظهر لنا في سفر أشعياء هي انعكاس صادق لما كانت عليه حالة الشعب في ذلك الحين، كما يظهر ذلك في كتابات الأنبياء والمؤرخين الذين عاشوا في ذلك العصر، كانغماس الشعب في العبادة الوثنية تحت كل شجرة خضراء مثلاً (أش 1: 29و57: 5 وقارنه مع 2 ملو 16: 4) وبين أشجار البطم (أش 1: 29و57: 5 وقارنه مع هو 4: 13) وبالذبح في الجنات (أش 65: 3 و66: 17) وذبح الأطفال في الوديان (أش 57: 5 و2 أخبار 28: 3 و33: 6 و2 ملو 23: 10) والارتفاع فوق الجبال العالية لتقديم الذبائح (أش 57: 7 و2 أخبار 28: 4 وهو 4: 3 قارنه مع حز 6: 13) وغير هذا الكثير ، مما يصف حالة العصر الروحية وصفاً دقيقاً مثل تفشي الرياء وكسر السبت وسفك الدم والظلم والجور والخداع وإهمال العبادة في الهيكل والتبخير على الآجر وتقديم لحم الخنزير وأكله، مما صوره أشعياء كما صوره غيره من الأنبياء المعاصرين له.
بقي أمر آخر لا بد من ذكره في دراسة سفر أشعياء وهو ورود اسم كورش صراحة. وقد ارتأى الكثيرون ان الوحي ذكر اسم كورش حتى يعلم العبرانيون المسبيون أنه حالما يأتي كورش فقد أتى خلاصهم. ويقول المصلح كلفن أن الوحي قصد أنه عندما يأتي كورش ويعرف أنه هو المعين من قبل الله ليحمل الخلاص للمسبيين فإنه سيتجاوب مع هذا القصد السماوي ويتممه بأن يردّ المسبيين إلى فلسطين. إلا أننا نقول أنه لو كان هناك إيمان بوحي وبالمعجزة وبالنبوة وبالحوادث قبل وقوعها، وأن أبناء الله القديسين ويتممه بأن يردّ المسبيين إلى فلسطين. إلا أننا نقول أنه لو كان هناك إيمان بوحي وبالمعجزة وبالنبوة وبالحوادث قبل وقوعها، وأن أبناء الله القديسين نطقوا بهذه النبوات تحت قيادة وإرشاد روح الله القدوس لزالت كل صعوبة في ذكر أشعياء لكورش باسمه صراحة.
* يُكتَب خطأ: إشعيا النبي، اشعاء، اشيعيا، اشيعياء، اشيعا.
إشعياء : " النبى الأنجيلى " ،
ودعى سفره : " إنجيل إشعياء " أو " الإنجيل الخامس " .
من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد ، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفارى خاصة " الصليب " ؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة .
قال عنه أحد الآباء :
[ إنه أكثر من أى كتاب نبوى آخر ، يحوى أكمل النبوات المسيانية التى وجدت فى العهد القديم ، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد ]
اهتم به آباء الكنيسة خاصة فى حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائى وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ ... .
المحاكمة العظمى
يفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه ، فيها يقف الله مدعيا وقاضيا . لا يريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم .
يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودا ضد شعبه .
يعلن الإتهام وفى نفس الوقت يقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة ، يقف قاضيا وديانا وفى نفس الوقت طبيبا ومخلصا . يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة .
( 1 ) مقدمة السفر
" رؤيا إشعياء بن آموص الى رآها على يهوذا وأورليم فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا " إش 1 : 1
تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذى يضم مجموعة رؤى ونبوات أعلنت لإشعياء فى ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ ..... لكنه يدعوها جميعا " رؤيا " ، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة ، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به .
هذه الرؤى تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله .
( 2 ) استدعاء الطبيعة :
" إسمعى أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم : ربيت بنين ونشأتهم . أما هم فعصوا على " إش 1 : 2
يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان ، تستدعى فيها الطبيعة الجامدة – السماء والأرض – لتشهد هذه المحاكمة .
ربما استدعى إشعياء النبى الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبى [ راجع تث 32 : 1 ] . كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبى الذى يعتز به كل يهودى .
الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنا جامدا ، إنما هو " الحب " عينه ، فريد فى حبه لخليقته السماوية والأرضية ، خاصة حبه نحو الإنسان . لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يحدثنا بلغتنا البشرية معبرا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الإتحاد والشركة معه .
يتوقع الله فينا أن نحمل روح البنوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التى كلفته الكثير .
يعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم ، فإن عصيان البنين أمر من عصيان الأجراء والعبيد ، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التى يسببها الأعداء .
( 3 ) استدعاء الحيوانات :
" الثور يعرف قانيه ، والحمار معلف صاحبه ، أما إسرائيل فلا يعرف ، شعبى لا يفهم " إش 1 : 3
إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر ( خر 4 : 22 ) ، فكان يليق بالإبن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته ، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات ، إذا كان الإنسان قد انحط إلى ما هو أدنى من الحيوان ، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السماوات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوى
( 4 ) وصف لحال الشعب :
أولا : وصفهم بسبع سمات فى إش 1 : 4 – الثلاثة تشير إلى خطايا النفس الداخلية التى على صورة الثالوث ، والأربعة تشير إلى خطايا الجسد الظاهرة .
وكأن الشعب قد تدنس فى الداخل والخارج ، بخطايا خفية وظاهرة ، فى الجسد والروح .
السمات الأربع الأولى هنا تشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة : " ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الإثم ، نسل فاعلى الشر ، أولاد مفسدين " ؛ والسمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية : " تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى الوراء " .
رقم 7 يشير إلى " التمام " ، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحد . علام تضربون بعد ؟!
تزدادون زيغانا ، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم ؛ من أسفل القدم إلى الرأس ، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط ، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت " إش 1 : 5 ، 6 .
يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه . فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم ازدادوا زيغانا ، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعى
" بلادكم خربة ، مدنكم محرقة بالنار ، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهى خربة كانقلاب الغرباء ، فبقيت إبنة صهيون كمظلة فى كرم ، كخيمة فى مقثأة ، كمدينة محاصرة " إش 1 : 7 ، 8 .
يتحدث النبى هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الأشورى حاسبا ما سيحل بهم فى المستقبل كأنه حاضر ، لأنه أمر حادث لا محالة .
هذا الخراب الذى حل هو علامة على ما أرتكبه يهوذا من آثام ، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه ، وعدم طاعتهم لصوته .
هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها : الجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ ....
وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له ، بسببها لم يحطم شعبه الذى فسد ، إذ قيل :
" لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة " إش 1 : 9 .
لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التى تتقدس له وسط الفساد الذى يحل بالكثيرين .
( 5 ) استدعاء القضاة :
" اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم ، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة " إش 1 : 10 . فى شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب " قضاة سدوم " ويلقب الشعب نفسه " شعب عمورة " ، وذلك من أجل الظلم والفساد الذى أتسم به كل الرؤساء والمرؤوسين .
لا نجد فى كل السفر موقفا واحدا يشعر فيه النبى بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح فى مجده ( إش 6 ) ، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس .
يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته .
( 6 ) الإتهام : العبادة الشكلية :
الإتهام الموجه إليهم هنا خطير للغاية ؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء ، يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة ، يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله ، وحياتهم فاسدة .
كما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين :
" لأنك تقول أنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شىء ولست تعلم أنك أنت الشقى والبائس وفقير وأعمى وعريان " رؤ 3 : 17 .
هذا الإتهام اثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة فى حياة الكنيسة سواء فى العهد الجديد أو القديم والإلتزام بعد الإنحراف عن هذه الغاية الإلهية .
يقول : " من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دورى ؟! إش 1 : 12 . فقد أكثروا الدخول فى الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر ، فرآهم الله – فى عدم توبتهم – أشبه بالحيوانات التى تدوس بيته وتدنسه ! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صب غضب الله .
جاءوا بتقدمات كالبخور الذى يرمز إلى الصلاة ، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه ( إر 2 : 27 ) صار بخورهم مكرهة للرب ، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم .
( 7 ) دعوة للتوبة :
فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرا بشاعة الفساد الذى حل بهم دون أن يحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوى السماوى قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التى خلقهم عليها . هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب ،
أما خطواتها فهى :
( أ ) الأغتسال :
بقوله " اغتسلوا .. تنقوا " إش 1 : 16 لا يقصد التطهيرات الناموسية ، لأنه فى اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجى للعبادة ، إنما عنى اغتسال المعمودية الذى فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذى على صورة خالقنا .
هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية " حممتك بالماء " حز 16 : 9 ، إذ جاء فى نفس السفر " وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاساتكم ...... " حز 36 : 25 ، 26 .
( ب ) " اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى الرب .. كفوا عن فعل الشر " إش 1 : 16 . إذ ينال الإنسان النقاوة التى بها يعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهى ، فيرفض كل ما هو شر ، حتى لا يعرج بين الطريقين : الله والخطية .
( ج ) " تعلموا فعل الخير " إش 1 : 17 .. لا يكفى الجانب السلبى ، أى نزع كل ما هو شر والكف عنه دائما وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابى ، نحمل سمة المسيح الذى هو " الحق " فينا . لهذا يوصينا " اطلبوا الحق ، انصفوا المظلوم ، اقضوا لليتيم ، حاموا عن الأرملة " . هذه هى التوبة الإيجابية التى خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر واظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملى والرحمة ، خاصة تجاه العاجزين والأرامل .
( د ) الحب العملى تجاه المتألمين ، تجعل الله يفتح مراحمه أمامنا نحن الخطاة ، قائلا :
" هلم نتحاجج يقول الرب : إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج ، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف " إش 1 : 18 .
هذه دعوة صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب .
الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه فى حوار .. ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر ، حتى وإن عبر إلى التعود على صنع الشر ، حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف هـ ) تقديس الحرية الإنسانية ، إذ يقول :
" إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض ، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم " إش 1 : 19 ، 20 .
يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدا ، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختيارية ، يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفى نفس الوقت يترك له حرية الإختيار .
( 8 ) عتاب من واقع الماضى :
يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلا وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها ، بأسلوب مملوء رثاء وحزنا عميقا . غشعياء النبى صريح كل الصراحة ، لكنه مملوء حبا وعاطفة !
أ – كانت أورشليم " القرية الأمينة " إش 1 : 21 ، وقد صارت " زانية " يشبهها بالعروس التى كانت مخلصة لعريسها السماوى ، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها ، وقد جرت وراء آخر ( العبادة الوثنية ) فتنجست بزناها الروحى مع محبيها ( حز 16 : 25 ، 32 ، 36 ) – كانت عذراء ( إش 37 ) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات .
ب – كانت " ملآنة حقا ، كان العدل يبيت فيها ، وأما الآن فالقاتلون " إش 1 : 21 . كانت مسكنا للقدوس الذى هو " الحق " و " العدل " ، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته ، لكنها صارت مسكنا للقتلة ، لذا يقول الرب " ليس لإبن الإنسان أين يسند رأسه " مت 8 : 10 ، لو 9 : 58 ، حين تكون مقدسة تقول : " حبيبى لى ، بين ثديى يبيت " نش 1 : 13 . لكنها متى تنجست يصير قلبها " بين ثدييها " مسكنا للشر .
جـ - تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلا يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها .. صار خمرها مغشوشا بالماء ( إش 1 : 22 ) يحمل لون الخم لكنه مغشوش ماء ... هذه صورة عن الإهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الإهتمام بالأعماق .
مسيحنا يحول الماء خمرا ، أما الشرير فيحول الخمر ماءا
د- " رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص " إش 1 : 23 ، أى يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة .
يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء ، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة . يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية ، ولا يبالون بالأيتام والأرامل ، لأن المجد الزمنى شغلهم عن التفكير فيهم . حولوا أورليم " كنيسة المسيح " إلى بيت للظلم والقسوة والعنف .
( 9 ) الديان يتقدم كمخلص :
أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدى ، وإنما يقوم " رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل " إش 1 : 24 كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حل بهم .
يلاحظ هنا :
أ – دعى الله بثلاثة ألقاب [ السيد " يهوه " ، رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل ] .
يرى بعض الدارسين أنها إشارة خفية عن الثالوث القدوس .
وحملت أورشليم 3 ألقاب : مدينة العدل ، القرية الأمينة ، صهيون تفدى بالعدل ( إش 1 : 28 ) . ودعى الأشرار بألقاب ثلاثة أيضا : المذنبون ، الخطاة ، تاركو الرب ( إش 1 : 28 ) .
ب – يحسب الله من يتلف شعبه حملا ثقيلا ( إش 23 : 24 ) ، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه :
" أستريح من خصمائى ، وانتقم من أعدائى " إش 1 : 24 .
تبقى أحشاء الرب تحن على شعبه حتى يحطم الشر !
جـ - " ينقى أورشليم من الزغل كما بالبورق ( ربما يقصد بوتاسا المعادن ) ، إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر .
إنه ينقينا ايضا بالتأديب ولو ظهر قاسيا كالنار .
د – " وأعيد قضائك كما فى الأول " إش 1 : 26 . إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان فى بدء خلقته